فكأنه قيل : لئن لم ينته الجامعون بين هذه الصفات القبيحة عن الاتصاف بها المفضي إلى الإيذاء (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي لندعونك إلى قتالهم وإجلائهم أو فعل ما يضطرهم إلى الجلاء ونحرضك على ذلك يقال أغراه بكذا إذا دعاه إلى تناوله بالتحريض عليه ، وقال الراغب : غرى بكذا أي لهج به ولصق ، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به وقد أغريت فلانا بكذا ألهجت به ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي لنسلطنك عليهم (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ) عطف على جواب القسم وثم للتفاوت الرتبي والدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلىاللهعليهوسلم أعظم ما يصيبهم وأشده عندهم (فِيها) أي في المدينة (إِلَّا قَلِيلاً) أي زمانا أو جوارا قليلا ريثما يتبين حالهم من الانتهاء وعدمه أو يتلقطون عيالاتهم وأنفسهم.
وفي الآية عليه كما في الانتصاف إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتيسر له منزل آخر على حسب الاجتهاد ، ونصب (قَلِيلاً) على ما أشرنا إليه على الظرفية أو المصدرية ، وجوز أن يكون نصبا على الحال أي إلا قليلين أذلاء ، ولا يخفى حاله على ذي تمييز.
وقوله تعالى : (مَلْعُونِينَ) نصب على الذم أي أذم ملعونين أو على الحال من فاعل (لا يُجاوِرُونَكَ) والاستثناء شامل له عند من يرى جواز نحو ذلك ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣] وجعل ابن عطية المعنى على الحالية ينتفون ملعونين ، وجوز أن يكون حالا من ضميرهم في قوله تعالى : (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) أي حصروا وظفر بهم ، وكأنه على معنى أينما ثقفوا متصفين بما هم عليه (أُخِذُوا) أي أسروا ومنه الأخيذ للأسير (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) أي قتلوا أبلغ قتل. وقرئ «قتلوا» بالتخفيف فيكون (تَقْتِيلاً) مصدرا على غير الصدر. واعترض على الحالية مما ذكر بأن أداة الشرط لا يعمل ما بعدها فيما قبلها مطلقا وهذا أحد مذاهب للنحاة في المسألة ، ثانيها الجواز مطلقا ، وثالثها جواز تقديم معمول الجواب دون معمول الشرط. وجوز على تقدير كون (قَلِيلاً) حالا أن يكون (مَلْعُونِينَ) بدلا منه. وتعقبه أبو حيان بأن البدل بالمشتق قليل ثم قال : والصحيح أن (مَلْعُونِينَ) صفة لقليل أي إلا قليلين ملعونين ويكون (قَلِيلاً) مستثنى من الواو في (لا يُجاوِرُونَكَ) والجملة الشرطية صفة أيضا أي مقهورين مغلوبا عليهم ا ه ، وهو كما ترى.
وقوله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) مصدر مؤكد أي سن الله تعالى ذلك في الأمم الماضية سنة وهي قتال الذين يسعون بالفساد بين قوم وإجلائهم عن أوطانهم وقهرهم أينما ثقفوا متصفين بذلك.
(وَلَنْ تَجِدَ) أيها النبي أو يا من يصح منك الوجدان أبدا (لِسُنَّةِ اللهِ) لعادته عزوجل المستمرة (تَبْدِيلاً) لابتنائها على أساس الحكمة فلا يبدلها هو جل شأنه وهيهات هيهات أن يقدر غيره سبحانه على تبديلها ، ومن سبر أخبار الماضين وقف على أمر عظيم في سوء معاملتهم المفسدين فيما بينهم ، وكأن الطباع مجبولة على سوء المعاملة معهم وقهرهم ، وفي تفسير الفخر (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ. وللسدي كلام غريب في الآية لا أظن أن أحدا قال به. أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال فيها : كان النفاق على ثلاثة أوجه : نفاق مثل نفاق عبد الله بن سلول ونظائره كانوا وجوها من وجوه الأنصار فكانوا يستحيون أن يأتوا الزنا يصونون بذلك أنفسهم وهم المنافقون في الآية ، ونفاق الذين في قلوبهم مرض وهم منافقون إن تيسر لهم الزنا عملوه وإن لم يتيسر لم يتبعوه ويهتموا بأمره ، ونفاق المرجفين وهم منافقون يكابرون النساء يقتصون أثرهن فيغلبوهن على أنفسهم فيفجرون بهن ، وهؤلاء الذين يكابرون النساء (لَنُغْرِيَنَّكَ