ولا يخفى أن تفسير الأمانة في الآية بالأعضاء مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، والخبر المذكور إن صح لا يدل عليه ، ومثله بل دونه بكثير أنها حروف التهجي ولا يكاد يقول به إلا أطفال المكاتب ، وأقرب الأقوال المذكورة للقبول القول بأنها الفرائض أي من فعل وترك ، وتخصيص شيء منها بالذكر في خبران صح لا يدل على أنه الأمانة في الآية لا غيره وكم يخص بعض أفراد العام بالذكر لنكتة ، وقال أبو حيان : الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا ، ويعم هذا المعنى جميع ما تقدم ، وفيها أقوال أخر ستأتي إن شاء الله تعالى ، واختلفت كلمات الذاهبين إلى أنها الفرائض في تحقيق ما بعد فقيل الكلام على حذف مضاف والتقدير إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات إلخ.
وحكي ذلك عن الجبائي وليس بشيء ، وقيل الكلام على ظاهره وكذا العرض والإباء وذلك أنه عزوجل خلق للسماوات والأرض والجبال فهما وتمييزا فخيرت في الحمل فأبت وروي ذلك عن ابن عباس.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن جريج قال : بلغني أن الله تعالى لما خلق السماوات والأرض والجبال قال : إني فارض فريضة وخالق جنة ونارا وثوابا لمن أطاعني وعقابا لمن عصاني فقالت السماوات خلقتني فسخرت في الشمس والقمر والنجوم والسحاب والريح فأنا مسخرة على ما خلقتني لا أتحمل فريضة ولا أبغي ثوابا ولا عقابا ونحو ذلك قالت الأرض والجبال ، ويعلم مما ذكر أن الإباء لم يكن معصية لأنه لم يكن هناك تكليف بل تخيير ، وأما كونها استحقرت أنفسها عن أن تكون محل الأمانة فلا ينفي عنهن العصيان بالإباء لو كان هناك تكليف بالحمل ، وقيل : لا حذف والكلام من باب التمثيل على ما سمعت أولا.
وذهب كثير إلى أن المراد بحملها التزام القيام بها وبالإنسان آدم عليهالسلام ، واختلف في حمله إياها هل كان بعد عرضها عليه أو بدونه فقيل كان بعد العرض.
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم «أن الله تعالى عرض الأمانة على السماء الدنيا فأبت ثم التي تليها فأبت حتى فرغ منها ثم الأرضين ثم الجبال ثم عرضها على آدم عليهالسلام فقال نعم بين أذني وعاتقي» الخبر
وقيل : بدونه.
قال ابن الجوزي : لما خلق الله عزوجل آدم عليهالسلام ونفخ فيه الروح مثلت له الأمانة بصخرة ثم قال : للسماوات احملي هذه فأبت وقالت : إلهي لا طاقة لي بها وقال سبحانه : للأرض احمليها فقالت : لا طاقة بها لي وقال تعالى للجبال : احمليها فقالت : لا طاقة لي بها فأقبل آدم عليهالسلام فحركها بيده وقال لو شئت لحملتها فحملها حتى بلغت حقويه ثم وضعها على عاتقه فلما أهوى ليضعها نودي من جانب العز يا آدم مكانك لا تضعها فهذه الأمانة قد بقيت في عنقك وعنق أولادك إلى يوم القيامة ولكم عليها ثواب في حملها وعقاب في تركها ، وهذا ظاهر في أن الحمل على حقيقته وفي أن العرض على السماوات والأرض والجبال كان بمسمع من آدم عليهالسلام وإلى هذا ذهب ابن الأنباري ، وفي بعض الآثار ما يدل على أن العرض عليهن قبل خلقه عليهالسلام.
أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لما خلق الله تعالى السماوات والأرض عرض عليهن الأمانة فلم يقبلنها فلما خلق آدم عليهالسلام عرضها عليه فقال : يا رب وما هي؟ قال سبحانه : هي إن أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك قال : فقد تحملت يا رب فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج إلا قدر ما بين الظهر والعصر ، وكأني بك تختار من هذه الأقوال أن العرض على تقدير كونه بعد إعطاء الفهم والتمييز كان بمسمع من آدم عليهالسلام وأنه بعد أن سمع الإباء حملته الغيرة على الحمل ، وربما يفضي بك هذا إلى اختيار القول بأنه حمل الأمانة بدون عرضها عليه كما هو ظاهر الآية وبه يتأكد وصفه بما وصف لكني لا أظنك تقول بصحة حديث تمثل الأمانة بصخرة وإن قلت بصحة تمثل