مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة ، وهو إما عبارة عن قبولها بموجب استعداده الفطري أو عن القبول القولي يوم الميثاق ، وتخصيص الإنسان بالذكر مع أن الجن مكلفون أيضا وكذا الملائكة عليهمالسلام وإن لم يكن في ذلك كلفة عليهم لما أنه ليس فيه ما يخالف طباعهم لأن الكلام معه ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) اعتراض وسط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما تحمل ، والتأكيد لمظنة التردد أي إنه كان مفرطا في الظلم مبالغا في الجهل أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو قبولهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تعالى تبديلا ، ويكفي في صدق الحكم على الجنس بشيء وجوده في بعض أفراده فضلا عن وجوده في غالبها ، وإلى الفريق الأول أشير بقوله تعالى :
(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي حملها الإنسان ليعذب الله تعالى بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعلقة بها أبرز في معرض الغرض أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية ، وإلى الفريق الثاني أشير وبقوله سبحانه (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطب وتربية المهابة ، والإظهار في موضع الإضمار ثانيا لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لتكل من مقامي الوعيد والوعد حقه كذا قال بعض الأجلة في تفسير الآية. ووراء ذلك أقوال فقيل الأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء والكلام تقرير الوعد الكريم الذي ينبئ عنه قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) بجعل تعظيم شأن الطاعة ذريعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الأمر العظيم الشأن وراعاه فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين. وتعقب بأن جعل الأمانة التي شأنها أن تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة التي هي من أفعال المكلفين التابعة للتكليف بمعزل عن التقريب وإن حمل الكلام على التقرير بالوجه الذي قرر يأباه وصف الإنسان بالظلم والجهل أولا وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق ثانيا ، وقد يقال : مراد ذلك القائل أن الأمانة هي الطاعة من حيث أمره عزوجل بها وأن قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ) إلخ على معنى أنه كان كذلك إن لم يراع حقها فتأمل. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن الأمانة الفرائض وروي نحوه عن سعيد بن جبير وهو غير ما ذكر أولا بناء على أن التكليفات الشرعية مراد بها المعنى المصدري دون اسم المفعول ، وقيل : الصلاة فقد روي عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه كان إذا دخل وقت الصلاة اصفر وجهه الشريف وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال : إنه دخل عليّ وقت أمانة عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقد حملتها أنا مع ضعفي فلا أدري كيف أؤديها ، وحكى السفيري أنها الغسل من الجنابة ، وقيل الصلاة والصيام والغسل من الجنابة فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الأمانة ثلاث الصلاة والصيام والغسل من الجنابة» وفي رواية عن السدي والضحاك أنها أمانات الناس المعروفة والوفاء بالعهود. وقيل هي أن لا تغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير ، وقيل : هي كلمة التوحيد لأنها المدار الأعظم للتكليفات الشرعية. وقيل هي الأعضاء والقوى ، فقد أخرج ابن أبي الدنيا في الورع والحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر ورضي الله تعالى عنهما قال : «أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه ثم قال هذه أمانتي عندك فلا تضعها إلا في حقها فالفرج أمانة والسمع أمانة والبصر أمانة».