بأبي أنت وأُمّي ! ما ظننت الأمر ينتهي بهؤلاء القوم إلىٰ ما أرىٰ ، وظننْتُ أنّهم سيقبلون منك إحدىٰ الخصال التي تعرضها عليهم ، فقلْتُ في نفسي : لا أُبالي أن أطيع القوم في بعض أُمورهم ! وأمّا الآن فإنّي جئتُكَ تائباً مواسياً لك بنفسي حتّىٰ أموت بين يديك ، أترىٰ لي توبة ؟!
قال : نعم ، يتوب الله عليك ويغفر لك ، انْزل .
قال : أنا فارساً خيرٌ لك منّي راجلاً ، أُقاتلهم علىٰ فرسي ساعة ، وإلىٰ النزول ما يصير آخر أمري . ثمّ بارز فقتل واحداً بعد آخر .
ولم يبارز واحدٌ من أصحاب الحسين إلّا ويقتل عدّة منهم ؛ فقال عمرو بن الحجّاج رافعاً صوته : يا حَمقىٰ ! أتدرون من تُقاتلون ؟! فرسان المصر وقوماً مستميتين ، والله لا يبرز لهم منكم أحدٌ إلّا قُتل ، لا تبرزوا لهم ؛ فإنّهم قليلٌ ، وقلّ ما يبقون ، وجهدهم العطش .
فقال عمر بن سعد : لقد صدقْتَ . وأرسل في الناس ، فعزم عليهم أن : لا يبارز رجل منكم رجلاً منهم . .
فأخذت الخيل تحمل وأصحاب الحسين تثبت ، وإنّما هم اثنان وثلاثون فارساً ، إن قُتل منهم واحد واثنان يبين عليهم ، وإن قتلوا أضعافهم لا يبين علىٰ القوم (١) . فقال عمر : فليتقدّم الرُماة إلىٰ هذه العُدَّة اليسيرة ، فليرشقوهم بالنبل .
فتقدّموا فلم يلبثوا أن عقروا خيلهم فصاروا رجّالة (٢) ، وقاتلوا قتالاً لم يُرَ أعظم منه ولا أشدّ .
ووصل الناس إلىٰ الحسين ، فقاتل بين يديه كلّ من معه حتّىٰ سقطوا ،
__________________
(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٣٩ .
(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٤٣٧ .