التّصفّح ، ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة ، ولكنهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به ؛ كانوا كالصّم البكم. والعرب تسمّي المعرض عن الشيء : أعمى ، والملتفت عن سماعه : أصمّ ، قال مساكين الدّارميّ :
ما ضرّ لي جارا أجاوره |
|
ألّا يكون لبابه ستر |
أعمى إذا ما جارتي خرجت |
|
حتى يواري جارتي الخدر |
وتصمّ عما بينهم أذني |
|
حتى يكون كأنّه وقر (١) |
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩))
قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) ، أو : حرف مردود على قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) (٢) ، واختلف العلماء فيه على ستة أقوال :
أحدها : أنه داخل ها هنا للتخيير ، تقول العرب : جالس الفقهاء أو النّحويين ، ومعناه : أنت مخيّر في مجالسة أي الفريقين شئت ، فكأنه خيّرنا بين أن نضرب لهم المثل الأوّل أو الثاني.
والثاني : أنه داخل للإبهام فيما قد علم الله تحصيله ، فأبهم عليهم ما لا يطلبون تفصيله ، فكأنه قال : مثلهم كأحد هذين ، ومثله قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (٣) ، والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله. قال لبيد :
تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما |
|
وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر |
أي : هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين ، وقد فنيا ، فسبيلي أن أفنى كما فنيا.
والثالث : أنه بمعنى : بل. وأنشد الفرّاء :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضّحى |
|
وصورتها أو أنت في العين أملح |
والرابع : أنه للتفصيل ، ومعناه : بعضهم يشبّه بالذي استوقد نارا ، وبعضهم بأصحاب الصّيّب.
ومثله قوله تعالى : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) (٤) ، معناه : قال بعضهم ، وهم اليهود : كونوا هودا ، وقال النصارى : كونوا نصارى. وكذلك قوله : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٥) ، معناه : جاء بعضهم بأسنا بياتا ، وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة.
والخامس : أنه بمعنى الواو. ومثله قوله تعالى : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) (٦).
قال جرير :
نال الخلافة أو كانت له قدرا |
|
كما أتى ربّه موسى على قدر (٧) |
__________________
(١) الوقر : ثقل في الأذن ، أو ذهاب السمع كله ، وجاء في القرطبي ١ / ٢٥٩ حتى يواري جارتي الجدر.
(٢) البقرة : ١٧.
(٣) البقرة : ٧٤.
(٤) البقرة : ١٣٥.
(٥) الأعراف : ٤.
(٦) النور : ٦١.
(٧) قاله جرير في عمر بن عبد العزيز.