المشرق الذي بين يديه ، ولا يستجيب له منهم إلّا قليل من حاشية القوم ، من عبيد وإماء ، وصغار ، وإلا بعض من أهل اللّين والتواضع ، ممن لا يراهم القوم من أصحاب الجاه والسلطان فيهم! وهؤلاء الذين آمنوا من المستضعفين وأشباه المستضعفين ، هم علة أخرى من العلل المريضة التي تدعو القوم إلى خلاف النبيّ ، والوقوف في الجانب الآخر المعادى له .. (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)؟ وهذا ضلال في التفكير ، وسفاهة في الرأى .. فإن أول المستجيبين لأنبياء الله ورسله ، كانوا دائما من عامة الناس ، ممن لا يمسكهم الخوف على جاه أو سلطان أن يذهب به الدين الجديد .. وهكذا الشأن في دعوات الإصلاح والتجديد .. إن أكثر الناس حربا عليها ، ووقوفا في وجهها ، هم أصحاب المصالح من ذوى الرياسات المدنية أو الدينية .. على حين يكون أقرب الناس إليها ، وأكثرهم استجابة لها هم من خلت أيديهم من كل سلطان مادّيّ ، أو روحيّ! هكذا موقف النبيّ مع قومه ، وهكذا كان موقف نوح مع قومه ..
ولا يملك نوح إزاء هذا العناد الغاشم ، إلا أن يرفع شكاته إلى ربّه ، قائلا : (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) .. وإلا أن يسأله الحكم بينه وبينهم فى هذا الموقف ، الذي بلغ الغاية من التأزم والحرج بينه وبينهم .. فهو إما أن يمسك عن الدعوة إلى الله ، وإما أن يرجموه .. ولا ثالث غير هذين .. (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .. أي فاحكم بينى وبينهم ، فإن الله هو الحكم العدل ، الذي يقضى بهلاك الظالمين ، ونجاة المؤمنين .. ولهذا طلب نوح النجاة له ، ولمن معه من المؤمنين ، من هذا البلاء الذي يحمله حكم الله في القوم الكافرين .. وقد نجّى الله نوحا ومن معه ، وأغرق الكافرين الضالين.