لبّس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال (١)».
ثم يمضى ابن خلدون ، فى تقدير هذا الرأى ، فيقول : «وهؤلاء الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ـ قد جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة ، فطرة فطرهم الله عليها ، وجبلّة صورهم فيها ، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ، ماداموا ملابسين لها ـ أي الموانع ـ بالبشرية ، بما ركب في غرائزهم من القصد والاستقامة ، التي يحازون بها تلك الوجهة ـ أي الوجهة الملكية ـ ووكز في طباعهم رغبة في العبادة ، تكلف بتلك الوجهة ، وتسيح (٢) نحوها .. فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ ، متى جاءوا ـ بتلك الفطرة التي فطروا عليها ، لا باكتساب ولا صناعة .. فلهذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم ، وتلقوا في ذلك الملأ الأعلى ما يتلقونه ، وعاجوا ـ أي مالوا ـ به على المدارك البشرية ، منزلا في قواها ، لحكمة التبليغ للعباد .. فتارة يسمع دويا ، كأنه رمز من الكلام ، يأخذ منه المعنى الذي ألقى إليه ، فلا ينقضى الدويّ ، إلا وقد وعاه وفهمه ، وتارة يمثل له الملك الذي يلقى إليه ، رجلا ، فيكلمه ، ويعى ما يقوله.
ثم يقول : «واعلم أن الأولى ـ وهي رتبة الأنبياء غير المرسلين ، على ما حققوه ـ أي العلماء ـ والثانية ـ وهي حالة تمثل الملك رجلا يخاطب النبي ـ هى رتبة الأنبياء المرسلين ، ولذلك كانت أكمل من الأول ..
«إنما كانت الأولى أشد ، لأنها مبدأ الخروج ، فى ذلك الاتصال من القوة
__________________
(١) مقدمة ابن خلدون صفحة ٨٨.
(٢) فى الأصل ، تكشف ، وتسبغ .. وهو تجويف.