ومن القيود التي يتقيد بها الناس ـ غير الشعراء ـ قيد الكلمة ، وإخراجها من حيّز الكلام إلى عالم الواقع .. أما أن يرسل المرء الكلام هكذا ، من غير أن يكون هذا الكلام صادرا عن إحساس به ، وتصور له فى صورة عمل يعمله الإنسان ، وسلوك يعيش به في الناس ، فهو من غير الشعراء ، كذب ونفاق ، ثم هو من الشعراء خيال ، هو من مستلزمات هذا الضرب من الكلام ، الذي لا يطلب منه الناس الحقيقة عارية ، وإنما يروقهم أن يروها في هذا الجوّ الشاعريّ الحالم!!
يروى أن عبد الملك بن مروان سمع الفرزدق الشاعر ، وهو ينشد بين يديه هذه الأبيات ، من قصيدة له :
ثلاث واثنتان فهنّ خمس |
|
وواحدة تميل إلى شمام |
فبتن بجانبيّ مصرّعات |
|
وبتّ أفض أغلاق الختام |
فقال عبد الملك ، يا فرزدق ، قد أوجبت عليك حدّ الزنا ، ولا بدّ من رجمك ، فقال وبم أوجبت عليّ الحدّ يا أمير المؤمنين؟ قال بكتاب الله .. قال فإن كتاب الله يدرأ عنى الحدّ! قال وكيف؟ قال فإن الله سبحانه وتعالى يقول في الشعراء : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) وأنا هنا شاعر ، وقد قلت ما لم أفعله! هكذا يرى الشاعر نفسه ، وكهذا ينبغى أن يراه الناس!
قوله تعالى :
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ـ هو استثناء من الحكم العام الذي أوقعته الآيات الثلاث السابقة ، على الشعراء .. ووصفتهم بتلك الصفة الغالبة عليهم ، وهي أنهم غواة يتبعهم الغاوون ؛ لأنهم يهيمون فى كل واد من أودية الخيال ، والضلال ، وأنهم يقولون ولا يلتزمون بما يقولون. (م ١٣ ـ التفسير القرآنى ـ ج ١٩)