وهي مدينة في واد والجبال مشرفة عليها من جوانبها ، وبناؤها حجارة سود ملس وبيض أيضا. وهي طبقات مبيّضة نظيفة حارّة في الصيف جدّا ، إلّا أن ليلها طيّب وعرضها سعة الوادي وماؤها من السماء ، ليس بها نهر ولا بئر يشرب ماؤها ، وليس بجميع مكّة شجر مثمر ، فإذا جزت الحرم فهناك عيون وآبار ومزارع ونخيل ، وميرتها تحمل إليها من غيرها بدعاء الخليل ، عليه السلام : ربّنا إني أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع ، إلى قوله من الثمرات.
وأمّا الحرم فله حدود مضروبة بالمنار قديمة ، بيّنها الخليل ، عليه السلام ، وحدّه عشرة أميال في مسيرة يوم ، وما زالت قريش تعرفها في الجاهليّة والإسلام.
فلمّا بعث رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، أقرّ قريشا على ما عرفوه ، فما كان دون المنار لا يحلّ صيده ولا يختلى خشيشه ، ولا يقطع شجره ولا ينفّر طيره ، ولا يترك الكافر فيه. ومن عجيب خواص الحرم ان الذئب يتبع الظبي ، فإذا دخل الحرم كفّ عنه!
وأمّا المسجد الحرام فأوّل من بناه عمر بن الخطّاب في ولايته ، والناس ضيّقوا على الكعبة ، وألصقوا دورهم بها فقال عمر : إن الكعبة بيت الله ولا بدّ لها من فناء. فاشترى تلك الدور وزادها فيه واتّخذ للمسجد جدارا نحو القامة ، ثمّ زاد عثمان فيه ، ثمّ زاد عبد الله بن الزبير في اتقانه ، وجعل فيها عمدا من الرخام وزاد في أبوابه وحسنه. ثمّ زاد عبد الملك بن مروان في ارتفاع حيطانها وحمل السّواري إليها من مصر في الماء إلى جدّة ، ومن جدّة إلى مكّة على العجل ، وأمر الحجّاج فكساها الديباج ، ثمّ الوليد بن عبد الملك زاد في حلى البيت لمّا فتح بلاد الأندلس ، فوجد بطليطلة مائدة سليمان ، عليه السلام ، كانت من ذهب ولها أطواق من الياقوت والزبرجد ، فضرب منها حلى الكعبة والميزاب ، فالأولى المنصور وابنه المهدي زادوا في اتقان المسجد وتحسين هيئته ، والآن طول المسجد الحرام ثلاثمائة ذراع وسبعون ذراعا ، وعرضه ثلاثمائة ذراع وخمس عشرة ذراعا ، وجميع أعمدة المسجد أربعمائة وأربعة وثلاثون