أرقّ من كلّ نسيم!
بناها المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس ، ولمّا أراد المنصور بناء مدينة بعث روّادا يرتاد موضعا ، قال له : أرى يا أمير المؤمنين أن تبنى على شاطىء دجلة ، تجلب إليها الميرة والأمتعة من البرّ والبحر ، وتأتيها المادة من دجلة والفرات ، وتحمل إليها ظرائف الهند والصين ، وتأتيها ميرة أرمينية وآذربيجان وديار بكر وربيعة ، لا يحمل الجند الكثير إلّا مثل هذا الموضع. فأعجب المنصور قوله وأمر المنجّمين ، وفيهم نوبخت ، باختيار وقت للبناء فاختاروا طالع القوس الدرجة التي كانت الشمس فيها ، فاتّفقوا على أن هذا الطالع ممّا يدلّ على كثرة العمارة وطول البقاء ، واجتماع الناس فيها وسلامتهم عن الأعداء. فاستحسن المنصور ذلك ثمّ قال نوبخت : وخلّة أخرى يا أمير المؤمنين. قال : وما هي؟ قال : لا يتّفق بها موت خليفة! فتبسّم المنصور وقال :الحمد لله على ذلك. وكان كما قال ، فإن المنصور مات حاجّا ، والمهدي مات بماسبذان ، والهادي بعيساباد ، والرشيد بطوس ، والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي ، والمأمون بطرسوس ، والمعتصم والواثق والمتوكّل والمستنصر بسامرّا. ثمّ انتقل الخلفاء إلى التاج وتعطّلت مدينة المنصور من الخلفاء ؛ قال عمارة بن عقيل :
أعاينت في طول من الأرض أو عرض |
|
كبغداد من دار بها مسكن الخفض؟ |
صفا العيش في بغداد واخضرّ عوده |
|
وعيش سواها غير خفض ولا غض |
قضى ربّها أن لا يموت خليفة |
|
بها ، إنّه ما شاء في خلقه يقضي |
ذكر أبو بكر الخطيب أن المنصور بنى مدينة بالجانب الغربي ، ووضع اللبنة الأولى بيده ، وجعل داره وجامعها في وسطها ، وبنى فيها قبّة فوق ايوان كان علوها ثمانين ذراعا. والقبّة خضراء على رأسها تمثال فارس بيده رمح ، فإذا رأوا ذلك التمثال استقبل بعض الجهات ومدّ رمحه نحوها ، فعلموا أن بعض الخوارج