قال بعضهم : إنّ الإدراك عبارة عن الإحاطة ، ومنه : (إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) (١) ، أي أحاط به ، (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (٢) أي محاط بنا ، فالمنفي إذا عن الأبصار إحاطتها به عزّ وعلا لا مجرد الرؤية ، ثم قال : إنّ تخصيص الاحاطة بالنفي يشعر بطريق المفهوم بثبوت ما هو أدنى من ذلك ، وأقلّه مجرّد الرؤية ، كما أنّا نقول لا تحيط به الافهام ، وإن كانت المعرفة بمجردها حاصلة لكلّ مؤمن ؛ فالإحاطة للعقل منفية كنفي الإحاطة للحسّ ، وما دون الإحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للحسّ ثابت غير منفي (٣) ، إنتهى.
أقول : وما ذكره أن معنى الإدراك هو الإحاطة خلاف ما يظهر من اللغة ، فأصل الإدراك اللحوق ، يقال : أدركت فلانا ، أي لحقت به ، وأدرك زمانا كذا أي لحقه وبلغه ، ثم أستعمل في تعلّق القوة الحاسّة بمتعلقه كأنّها تلحقه استعارة ، ثمّ صار حقيقة بالغلبة.
ولو سلّم ذلك فحيث كان الإدراك هو الإحاطة ، والإدراك بالبصر هو الإبصار والرؤية فلا معنى لبقاء الرؤية مع انتفاء الإدراك ، ومن هنا يظهر ان لا معنى للمفهوم الذي تخيله ، فإن انتفاء الإحاطة مساوق لانتفاء الرؤية.
ولو سلّم فإنّما يصحّ ذلك في المركبات دون البسائط ، إذ فرض الإحاطة بالشيء علما ، والعلم بما هو دون الإحاطة فرض الكلّ والبعض في ذاته ، كما هو ظاهر.
فإن قلت : فالعقل لا يحيط به تعالى وله علم مّا به تعالى ولا يلزم التركيب.
قلت : لزوم التركيب ضروري ، والعقل كالحسّ والوهم لا يناله سبحانه
__________________
(١). يونس (١٠) : ٩٠.
(٢). الشعراء (٢٦) : ٦١.
(٣). التبيان ٤ : ٢٢٤ و ٢٢٥.