كذلك لا ينحرف عن إرادة الإنتقام أو السياسة ، فإذا تصوّره متلبسا مع الذنب بما يستدعي عدم الإسائة إليه كجهالة مّا بالذنب ، أو عثرة أو صفة أخرى تستدعي عدم السياسة ككونه شابا حدث السنّ أو جميلا أو ضعيفا أو نحو ذلك ، فإن لم يذعن به أخذ انتقامه ، وإن أذعن على وفق هذا الإستدعاء فقد وجده غير مستحق للإسائة إليه أو مستحقا للإحسان من هذه الجهة وان كان مستحقا لذلك من جهة ذنبه وقصوره ، وهذه هي حقيقة الرحمة.
فهي إذعان الراحم أنّ المرحوم على تلبّسه بالذنب أو ما يجري مجراه حقيقة أو دعوى متلبّس بما لا يستحق معه الإسائة أو بما يستحق معه الإحسان ، وإذا نسب هذا المعنى إلى الله ـ جلّت كبريائه ـ بما يناسب ساحة قدسه وعظمته كان ذلك وضعه تعالى كلّ شيء موضع الإحسان والإفاضة على قدر ما يستحقه ، فخلقه الخلق وإيجاده الأشياء وكل ما من قبله تعالى رحمة منه ، وإذ كان إحسانه وإنعامه ذا مراتب ، وكل مرتبة منها مسبوقة بالإستحقاق القبلي للإحسان والإنعام ، فرحمته تعالى مراتب ، كل مرتبة منها مسبوقة بزوال المانع وستر المنافي وهو المغفرة ، غير أنّ نفس المغفرة تحتاج إلى رحمة ، فكلّ مغفرة مسبوقة برحمة ولا عكس ، فإنّ الرحمة الأولى وهي أصل الإيجاد غير مسبوقة بالمغفرة إلّا بحسب ما يعتبره العقل ، حيث يعتبر الأشياء بحسب ماهياتها مستدعية للوجود ومفتقرة إلى إيجاد الموجد عزّت إفاضته.
ومن هنا يظهر أنّ الرحمة تنقسم إلى قسمين :
إحديهما : الرحمة العامّة وهي مساوقة للإيجاد العام ومطلق الوجود المطلق ويشترك فيها جميع الموجودات وتعمّ المؤمن والكافر والدنيا والآخرة والجنّة والنار.