قال ابن عباس رضي الله عنه : «وقف النبي صلىاللهعليهوسلم يوما على أصحاب الصفة ، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم ، فقال : «أبشروا يا أصحاب الصفة ، فمن بقي من أمتى على النعت الذي أنتم عليه ، راضيا بما فيه فإنه ، من رفقائى».
وقيل : المراد الفقراء مطلقا ، حصرهم الفقر عن الضرب فى الأرض للتجارة ، (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) ، أي : من أجل تعففهم عن السؤال ، (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) من الضعف ورثاثة الحال. الخطاب للرسول ، أو لكل أحد (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ، أي : لا يسألون ، وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا ، وقيل : نفى للأمرين معا ، أي : ليس لهم سؤال ، فيقع فيه إلحاف ، كقول الشاعر :
على لا حب لا يهتدى بمناره (١)
وليس ثمّ لا حب ولا منار ، وإنما المراد نفيهما ، وفى الحديث عنه صلىاللهعليهوسلم : «من سأل ، وله أربعون درهما ، فقد سأل إلحافا».
(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازى على القليل والكثير ، وهذا ترغيب فى الإنفاق ، وخصوصا على هؤلاء.
الإشارة : ما أفلح من أفلح ، وخسر من خسر ، إلا من نفسه وفلسه ، فمن جاد بهما ، أو بأحدهما ، فقد فاز وأفلح وظفر بما قصد ، والجود بالنفس أعظم ، وهو يستلزم الجود بالفلس ، والجود بالفلس ، إن دام ، يوصل إلى الجود بالنفس ، والمراد بالجود بالنفس : إسلامها للشيخ يفعل بها ما يشاء ، وتكون الإشارة فيها كافية عن التصريح ، ومن بخل بهما أو بأحدهما ، فقد خسر وخاب فى طريق الخصوص ، ومصرف ذلك هو الشيخ ، أو الفقراء المنقطعون إلى الله ؛ الذين حصروا أنفسهم فى سبيل الله ، وهو الجهاد الأكبر.
قال فى القوت : وكان بعض الفضلاء يؤثر بالعطاء فقراء الصوفية دون غيرهم ، فقيل له فى ذلك ، فقال : لأن هؤلاء همهم الله عزوجل ، فإذا ظهر منهم فاقة تشتّت قلب أحدهم ، فلأن أرد همة واحد إلى الله أحب إلىّ من أن أعطى ألفا من غيرهم ممن همه الدنيا. فذكر هذا الكلام لأبى القاسم الجنيد ، فقال : هذا كلام ولى من أولياء الله. ثم قال : ما سمعت كلاما أحسن من هذا. وبلغني أن هذا الرجل اقتر حاله فى أمر الدنيا
__________________
(١) هذا صدر بيت عجزه : (إذا سافه العود النباطىّ جرجرا) وهو من قصيدة لامرئ القيس. واللاحب : الطريق الواسع.