حملا على الجمع ، وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تخشى والنعمة الباهرة التي توجب طاعة مولاها. ه.
(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي : يسأل بعضكم بعضا فيقول : أسألك بالله العظيم ، (وَالْأَرْحامَ) أي : واتقوا الأرحام فلا تقطعوها ، فمن قطعها قطعه الله ، ومن وصلها وصله الله ، كما فى الحديث. أو تساءلون به وبالأرحام ، فيقول بعضكم لبعض : أسألك بالرحم التي بينى وبينك ، أو بالقرابة التي بينى وبينك. ثم هددهم على ترك ما أمروا به فقال : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) حافظا مطلعا شهيدا عليكم فى كل حال.
الإشارة : درجهم فى آخر السورة فى مدارج السلوك حتى زجّهم فى حضرة ملك الملوك ، وأمرهم أن يتقوا ما يخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية ، ثم دلاهم فى أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية ، فى النشأة الأولية ، ليعلّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة ، أو بين الفناء والبقاء.
وقد تكلم ابن جزى هنا على أحكام المراقبة ، فقال : إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها ، استفاد مقام المراقبة ، وهو مقام شريف أصله علم وحال ، ثم يثمر حالين. أما العلم : فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه ، ناظر إليه فى جميع أعماله ، ويسمع جميع أقواله ، ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال : فهو ملازمة هذا العلم بالقلب ، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه. ولا يكفى العلم دون هذه الحال ، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين : الحياء من الله ، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد فى الطاعات ، وكانت ثمرتهما عند المقربين : المشاهدة ، التي توجب التعظيم والإجلال لذى الجلال.
وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول صلىاللهعليهوسلم بقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك» ، فقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه» إشارة إلى الثمرة الثانية ، وهى الموجبة للتعظيم ، كمن يشاهد ملكا عظيما فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة ، وقوله : «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» إشارة إلى الثمرة الأولى ، ومعناه : إن لم تكن من أهل المشاهدة ـ التي هى مقام المقربين ـ فاعلم أنه يراك ، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين ، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى ، ورأى أن كثيرا من الناس قد يعجزون عنه ، تنزل منه إلى المقام الآخر.
واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة ، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاتبة ، فأما المشارطة فهى اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة ، وترك المعاصي ، وأما المرابطة فهى معاهدة العبد لربه على ذلك ، ثم بعد المشارطة والمرابطة فى أول الأمر تكون المراقبة ... إلخ.