يقول الحق جل جلاله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ) التي يستحق (عَلَى اللهِ) قبولها فضلا وإحسانا هى (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) أي : المعاصي متلبسين (بِجَهالَةٍ) أي : سفاهة وجهل وسوء أدب ، فكل من اشتغل بالمعصية فهو جاهل بالله ، قد انتزع منه الإيمان حتى يفرغ ، وإن كان عالما بكونها معصية ، (ثُمَّ يَتُوبُونَ) بعد تلك المعصية (مِنْ قَرِيبٍ) أي : من زمن قريب ، وهو قبل حضور الموت ؛ لقوله بعد : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وإنما جعله قريبا لأن الدنيا سريعة الزوال ، متاعها قليل وزمانها قريب ، (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) تصديقا لوعده المتقدم ، (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بإخلاصهم التوبة ، (حَكِيماً) فى ترك معاقبة التائب ، إذ الحكمة هى وضع الشيء فى محله.
وعن الحسن : قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لما أهبط إبليس قال : وعزتك وعظمتك لا أفارق ابن آدم حتى تفارق روحه جسده ، قال الله تعالى : وعزتى وعظمتى لا أحجب التوبة عن عبدى حتى يغرغر بها». وعن أبى سعيد الخدري أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ الشيطان قال : وعزتك لا أبرح أغوى عبادك ، ما دامت أرواحهم فى أجسادهم. قال الله تعالى : وعزتى وجلالى وارتفاع مكانى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى».
قال ابن جزى : وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها ، فيقطع بقبول توبته عند جمهور العلماء. وقال أبو المعالي : يغلب ذلك على الظن ولا يقطع. ه.
(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) مقبولة (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) أي : بلغت الحلقوم (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فلا توبة لهم ، (أُولئِكَ أَعْتَدْنا) أي : أعددنا وهيأنا (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ، قال البيضاوي : سوّى الحق تعالى بين من سوّف التوبة إلى حضور الموت من الفسقة ، وبين من مات على الكفر فى نفى التوبة ؛ للمبالغة فى عدم الاعتداد بها فى تلك الحالة ، وكأنه يقول : توبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء. وقيل : المراد بالذين يعملون السوء : عصاة المؤمنين ، وبالذين يعملون السيئات : المنافقون ؛ لتضاعف كفرهم ، وبالذين يموتون : الكفار. ه.
الإشارة : توبة العوام ليست كتوبة الخواص ، إنّ الله يمهل العوام ترغيبا لهم فى الرجوع ، ويعاقب الخواص على التأخير على قدر مقامهم فى القرب من الحضرة ، فكلما عظم القرب عظمت المحاسبة على ترك المراقبة ، منهم من يسامح له فى لحظة ، ومنهم فى ساعة ، ومنهم فى ساعتين ، على قدر المقام ، ثم يعاتبهم ويردهم إلى الحضرة.
وقال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى فى حاشيته : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي : إنما الهداية بعد الذلة ، على الله ؛ لأنه الذي يخلص من قهره بكرمه الفياض وبرحمته التي غلبت غضبه ، كما قال تعالى : (كَتَبَ