كما بيّنه فى القرآن ، أو كل أمة أمرت بالجهاد ووعدهم هذا الوعد. (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ)؟ هو مبالغة فى الإنجاز ، أي : لا أحد أوفى منه بالعهد ، (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) أي : فافرحوا به غاية الفرح ، فإنه أوجب لكم أعظم المطالب ، كما قال : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). قال بعضهم : ناهيك من بيع ، البائع فيه رب العلا ، والثمن جنة المأوى ، والواسطة محمد المصطفى صلىاللهعليهوسلم.
الإشارة : قد اشترى الحق جل جلاله منا أنفسنا وأموالنا بالجنة ، فمن باع نفسه لله ؛ بأن خالف هواها وخرق عوائدها ، وسعى فى طلب مولاها ، عوضه جنة المعارف ، معجلة ، وزاده جنة الزخاف ، مؤجلة. ومن باع ماله ؛ بأن أنفقه فى مرضاة الله ، وبخل بنفسه ، عوضه جنة الزخارف ، مؤجلة.
قال فى الإحياء ـ فى باب الذكر وفضيلته ـ : وأنه يوجب الأنس والحب ، فإذا حصل الأنس بذكر الله انقطع عن غير الله ، وما سوى الله هو الذي يفارقه عند الموت ، فلا يبقى معه فى القبر أهل ، ولا مال ، ولا ولد ، ولا ولاية ، ولا يبقى معه إلا ذكر الله ، فإن كان فى أنس به تمتع به ، وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه ، إذ ضرورات الحاجات فى الحياة تصد عن ذكر الله ، ولا يبقى بعد الموت عائق ، فكأنه خلّى بينه وبين محبوبه ، فعظمت غبطته ، وتخلص من السجن الذي كان ممنوعا فيه ، عما به أنسه.
ثم قال : ولأجل شرف ذكر الله عظمت رتبة الشهادة ؛ لأن المطلوب هو الخاتمة ، ومعنى الخاتمة : وداع الدنيا كلها ، والقدوم على الله ، والقلب مستغرق بالله ، منقطع العلائق عن غيره ، والحاضر صفّ القتال قد تجرد قلبه لله ، وقطع طمعه من حياته ، حبا لله وطمعا فى مرضاته ، وحالة الشهيد توافق معنى قولك : (لا إله إلا الله) ، فإنه لا مقصود له سوى الله. ه. فما يجده أهل التملق من لذيذ الحلاوة فى مناجاتهم ، وأهل الشهود فى حال غيبتهم فى محبوبهم ، ليس هو من نعيم الدنيا ، بل من نعيم الجنة ، قدّمه الله لأوليائه ، وهو معنى جنة المعارف المعجلة ؛ عوضا لمن باع نفسه لله.
قال بعض العارفين : النفوس ثلاثة : نفس معيبة ، لا يقع عليها بيع ولا شراء ، وهى نفس الكافر ، ونفس تحررت ؛ لا يصح بيعها ، وهى نفس الأنبياء والمرسلين ، لأنها خلقت مطهرة من البقايا ، ونفس يصح بيعها وشراؤها ، وهى نفس المؤمن ، فإذا باعها لله ، واشتراها الحق تعالى منه ، وقع عليها التحرير ، وذلك حين تتحرر من رقّ الأكوان ، وتتخلص من بقايا الأثر.
وقال بعض أهل التحقيق : اشترى الله تعالى أعز الأشياء بأجل الأشياء ، وإنما اشترى الأنفس دون القلوب ؛ لأن القلب حر لا يقع عليه البيع ؛ لأنه لله ؛ فلا يباع ولا يشترى ، أما سمعت قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «القلب بيت الرب».