الإشارة : الحرم الآمن ، فى هذه الدار ، هو التبتل والانقطاع عن الدنيا وأبنائها ، والتجريد من أسبابها ، فمن دخله أمن ظاهرا وباطنا ، ومن هجرها ، وترك الناس حوله يتخطفون ويتهارجون عليها ، وهو يتفرج عليهم ، فالدنيا جيفة والناس كلابها ، فإن خالطتهم ناهشوك ، وإن تركت لهم جيفتهم سلمت منهم ، فمن كذّب بهذا فقد كذّب بالحق وآمن بالباطل ، فلا أحد أظلم منه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مآل أهل الجد والاجتهاد ممن تبتل وانقطع إلى الله فقال :
(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))
يقول الحق جل جلاله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) ، أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول ؛ ليتناول من تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين ، أي : جاهدوا نفوسهم فى طلبنا ، أو فى حقنا ، ومن أجلنا ، ولوجهنا ، خالصا ، (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي : طرق السير إلينا ، والوصول إلى حضرتنا ، أو لنسهلنهم فعل الخير حتى يصلوا إلى جنابنا.
وعن الداراني : والذين جاهدوا بأن عملوا بما علموا ، لنهدينهم إلى علم ما لم يعلموا. وقال الفضيل : والذين جاهدوا فى طلب العلم ، أي : لله ، لنهدينهم سبل العمل. وقال سهل : والذين جاهدوا فى إقامة السنّة ، لنهدينهم سبل الجنة. وقال ابن عطاء : جاهدوا فى إرضائنا ؛ لنهدينهم سبل الوصول إلى محل الرضوان. وقال ابن عباس : جاهدوا فى طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا.
وقال الجنيد : جاهدوا فى التوبة ، لنهدينهم سبل الإخلاص ، أو : جاهدوا فى خدمتنا ؛ لنمنحنهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا ، (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنصر والمعونة فى الدنيا ، وبالثواب والمغفرة فى العقبى. والله تعالى أعلم.
الإشارة : المجاهدة ، على قدرها تكون المشاهدة ، فمن لا مجاهدة له لا مشاهدة له. وبالمجاهدة تميزت الخصوص من العموم ، وبها تحقق سير السائرين ، فالعموم وقفوا مع موافقة حظوظهم ؛ من الجاه والغنى وغيره ، والخصوص خالفوا نفوسهم ، ورفضوا حظوظهم ، وخرقوا عوائدهم ، فخرقت لهم العوائد ، وانكشفت عنهم الحجب ، وشاهدوا المحبوب. فجاهدوا أولا فى ترك الدنيا ، وتحملوا مرارة الفقر ، حتى تحققوا بمقام التوكل ، ثم جاهدوا فى ترك الجاه والرئاسة ، فتحققوا بالخمول ، وهو أساس الإخلاص ، ثم جاهدوا فى مخالفة النفس ، فحمّلوها كل ما يثقل