فأهل الدنيا فى غفلة عن الآخرة ، والمشتغلون بعلم الآخرة ، هم بوجودها ، فى غفلة عن الله. ه. قلت : وأهل المعرفة بالله لم يشغلهم عنه دنيا ولا آخرة. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالتفكر ، فقال :
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨))
قلت : «فى أنفسهم» : يحتمل أن يكون ظرفا ، أي : أولم يحدثوا التفكر فيها ، وأن تكون صلة للتفكر ، نحو : تفكر فى الأمر : أجال فيه فكره. والأول أظهر.
يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي : أولم يثبتوا التفكر فى أنفسهم ، أي : فى قلوبهم الفارغة ، فيتفكروا بها فى مصنوعات الله ، حتى يعلموا أنها ما خلقت عبثا ، والتفكر لا يكون إلا فى القلوب ، ولكن زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقوله : اعتقده فى قلبك. أو : أو لم يتفكروا فى أنفسهم ، التي هى أقرب إليهم من غيرها ، وهم أعلم بأحوالها ، فيتدبروا ما أودعها الله تعالى ، ظاهرا وباطنا ، من غرائب الحكمة الدالة على التدبير من الحكيم القديم ، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى وقت تجازى فيه ، على الإحسان إحسانا ، وعلى الإساءة مثلها ، حتى يعلموا ، عند ذلك ، أن سائر الخلائق مثلها ، وأنه لا بدّ لهم من الانتهاء إلى ذلك الوقت ، فيعلموا أن (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : ما خلقها باطلا وعبثا من غير حكمة ، ولا لتبقى خالدة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحكمة البالغة ، وتنتهى إلى أجل مسمى ، وهو قيام الساعة ، ووقت الحساب ، بالثواب والعقاب ، فيخرب هذا العالم ، ويقوم عالم آخر ، لا انتهاء لوجوده.
قال فى الحاشية الفاسية : وبالجملة : فخلق السموات والأرض ؛ للدلالة على التوحيد بوجودهما ، وعلى الآخرة بفنائهما ، وانقضاء أجلهما. ثم قال : والحاصل أن خلقه بمقتضى الحكمة يقتضى جزاء أوليائه ، وتعذيب أعدائه. وقد نصب تعالى القلب شاهدا ومنزلا منزلة الآخرة ، والقالب منزلة الدنيا ، وكما أن عمل القالب يعود نفعه ، إذا فعل الطاعة ، على القلب ؛ بالتنوير والتقريب لحضرة الربوبية ، ويعود ضرره عليه ، إذا فعل ضد ذلك ، كما يعرفه أهل القلوب ، وأنه مزرعة للقلب ، ولا بقاء له ، وإنما خلق لقضاء ذلك ، فكذلك الدنيا مزرعة للآخرة ، وإنما خلقت لذلك ، كما يعرفه أهل القلوب والبصائر الصافية السالمة ، فاعتبر ذلك. ه.