سيما العارفين ، وبهجة المحبين ، وبعضها لم يظهر عليها شىء من ذلك. ومن آياته منامكم فى ليل الغفلة والبطالة ، وقت غفلتكم ، وابتغاؤكم من فضله ؛ بزيادة معرفته ، وقت يقظتكم. ومن آياته يريكم البرق ، أي : يلمع عليكم أسرار المعاني ، ثم تخفى عند الاستشراف على بحر الحقيقة ، خوفا من الاصطلام والرجوع ، وطمعا فى الوصول والتمكين. ومن آياته أن تقوم الأشياء به وبأسرار ذاته ، ثم إذا دعاكم دعوة من أرض القطيعة إذا أنتم تخرجون ، فتعرجون بأرواحكم إلى سماء وصلته وتمكن معرفته. والله تعالى أعلم.
ثم برهن على كمال ملكه وعظمته ، فقال :
(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))
يقول الحق جل جلاله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ ملكا وملكا ، (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي : مطيعون ، كلّ لما أراد ، لا يستطيع التغير عن ذلك. أو : مقرّون بالعبودية ، أو : قائمون بالشهادة على وحدانيته. (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : ينشئهم ثم يعيدهم للبعث ، (وَهُوَ) أي : البعث (أَهْوَنُ) ؛ أيسر (عَلَيْهِ) عندكم ؛ لأن الإعادة عندكم أسهل من الإنشاء ، فلم أنكرتم الإعادة ، مع إقراركم بأن الإنشاء منه تعالى؟ وقال الزجاج وغيره : أهون بمعنى «هيّن» ؛ كقوله : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١) ، كما قالوا : أكبر ، بمعنى كبير. والإعادة فى نفسها عظيمة ، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء ؛ إذ هو أهون عند الخلق من الإنشاء ؛ لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نطفا ، ثم علقا ، ثم مضغا ، إلى تكميل خلقهم. قاله النسفي.
(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : الوصف الأعلى ، الذي ليس لغيره ، وقد عرف به ، ووصف فى السموات والأرض ، على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شىء من إنشاء وإعادة ، وغيرهما من المقدورات ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي : القاهر لكل مقدور ، (الْحَكِيمُ) الذي يجرى كل فعل على قضايا حكمته وعلمه. وعن ابن عباس : المثل الأعلى هو : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٢). وعن مجاهد : هو قول : «لا إله إلا الله». ومعناه : وله الوصف الأرفع ، وهو اختصاصه بالألوهية فى العالم العلوي والسفلى ، ويعضده : ما بعده من ضرب المثل. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) من الآية ٣٠ من سورة النساء.
(٢) من الآية ١١ من سورة الشورى.