ثم ذكر دلائل القدرة على البعث وغيره ، فقال :
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦))
قلت : (وليذيقكم) : عطف على (مبشرات) ؛ على المعنى ، كأنه قيل : لتبشركم وليذيقكم ، أو : على محذوف ، أي : ليغيثكم وليذيقكم.
يقول الحق جل جلاله : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على كمال قدرته : (أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) ، وهى الجنوب ، والصّبا ، والشمال ، والدّبور ، فالثلاث : رياح الرحمة ، والدبور : ريح العذاب ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «اللهم اجعلها رياحا ، ولا تجعلها ريحا» (١). وقال : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» (٢) ، وهى الريح العقيم. وقرأ ابن كثير والأخوان : بالإفراد ، على إرادة الجنس.
ثم ذكر فوائد إرسالها بقوله : (مُبَشِّراتٍ) أي : أرسلها بالبشارة بالغيب (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) ؛ ولإذاقة الرحمة ، وهى نزول المطر ، وحصول الخصب الذي يتبعه ، والرّوح الذي مع هبوب الريح ، وزكاء الأرض ، أي : ربوها وزيادتها بالنبات ، وغير ذلك من منافع الرياح والأمطار. قال الحسن : لو أمسك الله عن أهل الأرض الريح ساعة لماتوا ؛ غمّا.
(وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) فى البحر عند هبوبها (بِأَمْرِهِ) ؛ بتدبيره ، أو بتكوينه ، لقوله (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً ...) (٣) الآية. قيل : إنما زاد بأمره ؛ لأنها قد تهب غير مواتية ، فتغرق ، وهى عند أمره أيضا ، فهى على حسب أمره ، ولأن الإسناد وقع للفلك ؛ مجازا ، فأخبر أنه بأمره ، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ، يريد به تجارة البحر ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم ؛ فيزيدكم من فضله.
الإشارة : ومن آيات فتحه على أوليائه : أن يرسل رياح الهداية أولا ، ثم رياح التأييد ، ثم رياح الواردات ، تحمل هدايا التّعرّفات ، مبشرات بالفتح الكبير ، والتمكين فى شهود العلى الكبير ، وليذيقكم من رحمته ، وهى حلاوة معرفته ، ولتجري سفن الأفكار فى ميادين بحار توحيده ، ولتبتغوا من فضله ؛ هو الترقي فى الكشوفات والعلوم والأسرار ، أبدا سرمدا ، ولعلكم تشكرون ؛ بالقيام برسوم الشريعة وآداب العبودية.
__________________
(١) أخرجه الشافعي فى مسنده (ح ٥٠٢) ، وأبو يعلى فى مسنده (٤ / ٣٤١) ، والطبراني فى الكبير (١١ / ٢١٣ ـ ٢١٤ ح ١١٥٣٢) ، وابن عدى فى الكامل (٢ / ٧٦٣) من حديث ابن عباس. وانظر : مجمع الزوائد (١٠ / ١٣٥ ـ ١٣٦).
(٢) أخرجه البخاري فى (الاستسقاء ، باب : قول النبي صلىاللهعليهوسلم «نصرت بالصبا» ح ١٠٣٥) ومسلم فى (الاستسقاء باب فى ريح الصبا والدبور ، ٢ / ٦١٧ ، ح ٩٠٠) من حديث ابن عباس رضى الله عنه. والصبا : ريح ، ومهبها المستوي أن تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار. والدّبور : الريح التي تقابل الصبا ، وقال النووي : هى الريح الغربية.
(٣) الآية ٨٢ من سورة يس.