يقول الحق جل جلاله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) أي : ما يلهى به عما يقرب إلى الله ؛ كالأحاديث التي لا أصل لها ، والخرافات التي لا حقيقة لها ، والمضاحك ، وفضول الكلام. قيل : نزلت فى النّضر بن الحارث ، كان يخرج إلى فارس للتجارة ، فيشترى أخبار الأعاجم ، ثم يحدث قريشا بها ، ويقول : إن محمدا يحدثكم بأخبار عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث رستم ، وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ولا يسمعون القرآن (١). وقيل : كان يشترى القيان ، ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ؛ ليصده عنه.
والاشتراء من الشراء ، كما تقدم عن النضر ، ومن البدل ، كقوله : (اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) (٢). استبدلوه واختاروه ، أي : يختار حديث الباطل على حديث الحق. وإضافة اللهو إلى الحديث ؛ للتبيين بمعنى «من» ؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره ، فيبين بالحديث ، والمراد بالحديث : الحديث المكروه ، كما جاء فى الحديث : «الحديث فى المسجد يأكل الحسنات ، كما تأكل البهيمة الحشيش» (٣) ، أو : للتبعيض ، كأنه قيل : ومن الناس من يشترى بعض الحديث الذي فيه اللهو. وقال مجاهد : يعنى : شراء المغنيات والمغنين ، أي : يشترى ذات لهو ، أو : ذا لهو الحديث. وقال أبو أمامة : قال عليه الصلاة والسلام : «لا يحل تعليم المغنيات ، ولا بيعهن ، وأثمانهنّ حرام». وفى مثل هذا نزلت هذه الآية ، ثم قال : «وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب ، والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يسكت» (٤).
قلت : هذا مقيد بشعر الهوى لأهل الهوى ، وأما أهل الحق الذين يسمعون من الحق ، فلا يتوجه الحديث لهم ، وسيأتى فى الإشارة تحقيقه إن شاء الله. ثم قال أبو أمامة رضي الله عنه عنه صلىاللهعليهوسلم : «إن الله تعالى بعثني هدى ورحمة للعالمين ، وأمرنى ربى بمحو المعازف والمزامير والأوثان ، والصلب وأمر الجاهلية ، وحلف ربى بعزته لا يشرب عبد من عبيدى جرعة خمر متعمدا إلا سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة ، مغفورا له أو معذبا ، ولا سقاها غيره إلا فعلت به مثل ذلك ، ولا يتركها عبد من مخافتى إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة». انظر الثعلبي.
ثم قال تعالى : (لِيُضِلَ) (٥) (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : فعل ذلك ليضل هو عن طريق الله ودينه ، أو ليضل غيره عنه ، أو عن القرآن ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : جهلا منه بما عليه من الوزر. (وَيَتَّخِذَها) أي : السبيل (هُزُواً) وسخرية. فمن رفع : استأنف ، ومن نصب ، عطفها على (ليضل) (٦) ، (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يمينهم ويخزيهم ، و «من» ، لإبهامه ، يقع على الواحد والجمع ، والمراد : النضر ومن تبعه.
__________________
(١) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (٢ ٣٥٦) ، والبغوي فى التفسير (٦ / ٢٨٣) عن الكلبي ومقاتل.
(٢) من الآية ١٧٧ من سورة آل عمران.
(٣) قال العراقي فى المغني عن حمل الأسفار (١ / ١٨) : لم أقف له على أصل.
(٤) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٥ / ٢٥٢) ، والطبري فى التفسير (٢١ / ٦٠) ، والطبراني فى الكبير (٨ / ٢١٢ ، ٢٥١) ، والبيهقي فى السنن (٦ / ١٥) ، والبغوي فى التفسير (٦ / ٢٨٤) ، والواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٥٧) وذكره ابن الجوزي فى العلل المتناهية (٢ / ١٩٨) وأخرجه مختصرا الترمذي وضعفه فى (التفسير ـ سورة لقمان ٥ / ٣٢٢ ، ح ٣١٩٥).
(٥) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (ليضل) بفتح الياء. والباقون بالضم. انظر الإتحاف (٢ / ٣٦١).
(٦) قرأ حفص وحمزة والكسائي : «ويتخذها» ؛ بالنّصب. وقرأ الباقون : «ويتخذها» ؛ بالرفع. انظر الإتحاف (٢ / ٣٦٢).