(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) ؛ خيلاء ؛ متبخترا ، فهو مصدر فى موضع الحال ، أي : مرحا ، أو : تمرح مرحا ، أو : لأجل المرح ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) ، علة النهى. والمختال هو المرح الذي يمشى خيلاء ، والفخور هو المصعّر خدّه ؛ تكبرا. وتأخير الفخور ، مع تقدمه ؛ لرؤوس الآي.
(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) ؛ توسط فيه بين الدبيب والإسراع ، فلا تدب دبيب المتماوتين ، ولا تثب وثوب الشطارين ، قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن» (١). وأما قول عائشة ـ رضى الله عنها : (كان إذا مشى أسرع) ؛ فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب التماوت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كانوا ينهون عن خبب (٢) اليهود ودبيب النصارى ، ولكن مشيا بين ذلك. وقيل : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) : انظر موضع قدميك ، أو : اقصد : توسّط بين العلو والتقصير.
(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) ؛ وانقص منه ، أي : اخفض صوتك. كانت العرب تفخر بمجاهرة الصوت ، فنهى الله عن خلق الجاهلية ، فذكره لوصية لقمان ، وأنه لو كان شىء يهاب ، لرفع صوته لكان الحمار ، فجعلهم فى المثل سواء. وهو قوله : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) ؛ أوحشها وأقبحها (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ؛ لأن أوله زفير ، وآخره شهيق ، كصوت أهل النار. وعن الثوري : صياح كل شىء تسبيح إلا الحمار ، فإنه يصيح لرؤية الشيطان ، وقد سماه الله منكرا ، وفى تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير ؛ تنبيه على أن رفع الصوت فى غاية البشاعة ، ويؤيده : ما روى أنه : عليه الصلاة والسلام ـ كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ، ويكره أن يكون مجهور الصوت.
وقال بعضهم : رفع الصوت محمود فى مواطن ؛ منها : الأذان والتلبية. وقال فى الحاشية الفاسية : بل ينبغى الاقتصاد فى ذلك ، كما قال عمر بن عبد العزيز : أذّن أذانا سنّيّا ، وإلا اعتزلنا. ه. وقال عليه الصلاة والسلام : «اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا» (٣). وإنما وحّد صوت الحمير ولم يجمع ؛ لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من هذا الجنس حتى يجمع ، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت ، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس ، فوجب توحيده.
الإشارة : قد اشتملت وصية لقمان على خصال صوفية ، تدل على كمال صاحبها ، منها : استحضار مراقبة الحق ومشاهدته ، فى السر والعلانية ، فى الجلاء والخفاء. وهو قوله : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ ..) إلخ. ومنها : القيام بوظائف العبودية ، بدنية ولسانية ، وهو قوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ ..) إلخ ، ويقاس على الأمر بالمعروف والنهى
__________________
(١) أخرجه ابن عدى فى الكامل (٥ / ٨) ، وأبو نعيم فى الحلية (١٠ / ٢٩٠) ، من حديث أبى هريرة. وانظر : الفتح السماوي (٢ / ٩١٣ ـ ٩١٥).
(٢) الخبب : ضرب من العدو. وقيل : الخبب : السرعة. انظر : «اللسان» (خبب ٢ / ١٠٨٥).
(٣) بعض حديث أخرجه البخاري فى (الدعوات ، باب الدعاء إذا علا عقبة ، ح ٦٣٨٤) ، ومسلم فى (الذكر والدعاء ، باب استجاب خفض الصوت بالذكر ٤ / ٢٠٧٦ ح ٢٠٧٤) من حديث أبى موسى الأشعري رضى الله عنه. وقوله «اربعوا» أي : ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم.