والعصر والعشاءين. وإنما وحّد الغدو ؛ لأن صلاته صلاة واحدة ، وفى الآصال صلوات ، وهو جمع أصيل ، وفاعل «يسبّح» : رجال. ومن قرأ بفتح الباء (١) ، فأسنده إلى أحد الظروف الثلاثة ، أعنى : (له فيها بالغدو). و «رجال» : مرفوع بمحذوف ، دل عليه (يُسَبِّحُ) أي : يسبحه (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ) : لا تشغلهم (تِجارَةً) فى السفر ، (وَلا بَيْعٌ) فى الحضر ، (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) باللسان والقلب ، وقيل : التجارة : الشراء ، أي : لا يشغلهم شراء ولا بيع عن ذكر الله ، والجملة : صفة لرجال ، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة ، مفيدة لكمال تبتّلهم إلى الله تعالى ، واستغراقهم فيما حكى عنهم من التسبيح من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم.
وتخصيص التّجارة بالذكر ؛ لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها ، أي : لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ، ولا فرد من أفراد البياعات ، وإن كان فى غاية الربح. وإفراده بالذكر ، مع اندراجه تحت التجارة ؛ لإنه ألهى ؛ لأن ربحه متيقن ناجز فى الغالب ، وما عداه متوقع فى ثانى الحال.
(وَ) لا يشغلهم ذلك أيضا عن (إِقامِ الصَّلاةِ) أي : إقامتها لمواقيتها من غير تأخير ، وأصله : وإقامة ، فأسقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال ، وعوض عنها الإضافة ، فأقيمت الإضافة مقام التاء ، (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أي : وعن إيتاء الزكاة ، وذكرها ، وإن لم يكن مما تفعل فى البيوت ، لكونها قرينتها لا تفارق إقامة الصلاة فى عامة المواضع ، مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع فى المساجد.
والمعنى : لا تجارة لهم حتى تلهيهم ، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك ، لا يشغلهم عن ذكر الله شىء ، وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها مسرعين. (يَخافُونَ يَوْماً) أي : يوم القيامة (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ) أي : تضطرب وتتغير من الهول والفزع ، وتبلغ إلى الحناجر ، (وَ) تتقلب (الْأَبْصارُ) بالشخوص أو الزرقة. أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران ، والأبصار إلى العيان بعد النكران ، كقوله : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢).
يفعلون ذلك الاستغراق فى التسبيح والذكر ، مع الخوف ؛ (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي : أحسن جزاء أعمالهم ، حسبما وعدهم بمقابلة حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي : يتفضل عليهم بأشياء وعدهم بها ، لم تخطر على بال ؛ كالنظر إلى وجهه ، وزيادة كشف ذاته ، فهو كقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٣). (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : يثيب من يشاء ثوابا لا يدخل تحت حساب الخلق ، و «من» : واقعة على من ذكرت أوصافهم الجميلة ، كأنه قيل : والله يرزقهم بغير حساب ، ووضعه موضع
__________________
(١) وبها قراءة ابن عامر وأبو بكر.
(٢) من الآية ٢٢ من سورة ق.
(٣) من الآية ٢٦ من سورة يونس.