ولا حرج عليكم أيضا أن تأكلوا من (بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) الذكور (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ) النساء ، (أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) ؛ لأن الإذن من هؤلاء ثابت ؛ دلالة. واختلف العلماء فى إباحة الأكل من هذه البيوت المذكورة ، فقيل : إنه منسوخ وإنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه ، والناسخ : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (١) ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس» (٢). وقيل : محكمة ، ومعناها : إذا أذنوا فى ذلك ، وقيل : ولو بغير إذن ، والتحقيق : هو التفصيل : فمن علم منه طيب نفسه وفرحه بذلك ؛ بقرينة : حلّ أكل ماله ، ومن لا ؛ فلا.
(أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) قال ابن عباس : هو وكيل الرجل وقيّمه فى ضيعته وماشيته ، له أن يأكل من ثمرة ضيعته ، ويشرب من لبن ماشيته. والمراد بملك المفاتح : كونها فى يده وتحت حوزه. وقيّده ابن العربي بما إذا لم تكن له أجرة ، وإن كانت له أجرة على فعله حرم ، يعنى : إلا إذا علم طيب نفس صاحبه ؛ فيدخل فى الصديق. وقيل : أريد به بيت عبده ؛ لأن العبد وما فى يده لمولاه.
(أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي : أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون واحدا وجمعا ، وهو من يصدقك فى مودته وتصدقه فى مودتك ، يؤلمه ما يؤلمك ويؤلمك ما يؤلمه ، ويسرك ما يسره كذلك. وكان الرجل من السلف يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء ، فإذا حضر مولاها أعتقها سرورا بذلك ، فأما الآن فقد غلب الشحّ فلا يأكل إلا بإذن. قاله النسفي (٣).
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً) : مجتمعين (أَوْ أَشْتاتاً) : متفرقين ، جمع شتّ ، نزلت فى بنى ليث بن عمرو ، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل وحده ، فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل ، فإذا لم يجد من يؤاكله من الضيفان أكل أكل ضرورة. وقيل : فى قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا. وقيل : فى قوم تحرجوا من الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس فى الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض ، فخيّرهم. وقيل : كان الغنى منهم إذا دخل على الفقير من ذوى قرابته وصداقته ، ودعاه إلى طعام ، فيقول : إنى أتحرج أن آكل معك ، وأنا غنى وأنت فقير ، فأباح لهم ذلك. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) الآية ١٨٨ من سورة البقرة.
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٥ / ٧٢) فى حديث خطبة الوداع الطويل ، والبيهقي فى الكبرى (٦ / ١٠٠) عن أبى حرة الرشاقى ، عن عمه. وأخرجه الديلمي (الفردوس ح ٧٦٣٥) والدار قطنى (٣ / ٢٦) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٣) انظر تفسير النسفي (٢ / ٥٢٠).