ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات ، كذلك الله سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة ، موضوعات ومعان سامية ، في قوالب لفظية جميلة ، وعبارات موزونة ، وأسلوب خاص ، وهذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان ، لكنه عاجز عن صنع جمل وعبارات شبيهة بالقرآن.
الأدب في العصر الجاهلي : من المهم أن نذكر هنا أنّ العصر الجاهلي كان عصراً ذهبياً للأدب العربي. فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلى أنّ العرب الحفاة الجفاة الجاهليين ، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع. وكان للأدب سوق رائجة تدلّ على اهتمام العرب بلغتهم وآدابهم ، و (سوق عكاظ) وأمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الإهتمام بوضوح.
والسوق المذكور كان يشهد ـ إضافة إلى المعاملات الاقتصادية والقضايا الاجتماعية ـ حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر والنثر ، ويتم فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام ، وكانت القصيدة الفائزة تعدّ فخراً كبيراً للشاعر ولقبيلته.
في مثل هذا العصر من الإنتعاش الأدبي ، يتحدى القرآن الناس أن يأتوا بمثله ، ولكنهم عجزوا.
الشاهد الناطق على هذا المنحى من تفسير الحروف المقطعة ، حديث في تفسير البرهان عن الإمام علىّ بن الحسين عليهالسلام حيث يقول : «كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا هذا سحر مبين ، تقوّله ، فقال الله : (الم* ذلِكَ الْكِتَابُ) أي يا محمّد ، هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو الحروف المقطّعة التي منها الف ولام وميم ، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم».
بعد البسملة وذكر الآية الاولى من سورة البقرة يقول تعالى : (ذلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيهِ).
وقوله : (لَارَيْبَ فِيهِ) ليس إدعاء ، بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة ، وهي أنّ القرآن يشهد بذاته على حقانيته.
ومن المشهود أنّ مرّ العصور وكرّ الدهور لم يقلل من طراوة القرآن ، بل إنّ حقائق القرآن ، ازدادت وضوحاً بتطور العلوم وبانكشاف أسرار الكائنات ، وكلما إزداد العلم تكاملاً إزدادت آيات القرآن جلاء وسطوعاً.