وفيما كان يعبد الله في محرابه ، نادته ملائكة الله وقالت له : إنّ الله يبشّرك بمولود اسمه يحيى بل إنّهم لم يكتفوا بهذه البشارة حتى ذكروا للمولود خمس صفات :
الأوّلاً : سوف يؤمن بالمسيح ويشدّ أزره بهذا الإيمان : (مُصَدّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ).
ثانياً وثالثاً : سيكون من حيث العلم والعمل قائداً للناس (وَسَيّدًا). كما أنّه سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوّث بحبّ الدنيا «وَحَصُورًا». «الحصور» من الحصر ، أي الذي يضع نفسه موضع المحاصرة.
ورابعاً وخامساً : من مميّزاته أيضاً أنّه سيكون (نَبِيًّا) وأنّه (مّنَ الصَّالِحِينَ).
فلما سمع زكريا بهذه البشارة غرق فرحاً وسروراً ، ولم يمتلك نفسه في إخفاء تعجبه من ذلك فقال : (رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلمٌ وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ). فأجابه الله تعالى : (قَالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ). فلما سمع زكريا هذا الجواب الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعالى ومشيئته ، قنع بذلك.
(قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَنْ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) (٤١)
هنا يطلب زكريا من الله إمارة على بشارته بمجيء يحيى ، إنّ إظهار دهشته ـ كما قلنا ـ وكذلك طلب علامة من الله ، لا يعنيان أبداً أنّه لا يثق بوعد الله ، خاصة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله : (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ). إنّما كان يريد زكريا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيماناً شهودياً ، كان يريد أن يمتليء قلبه بالاطمئنان ، كما كان إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسي.
(قَالَ رَبّ اجْعَل لِىءَايَةً قَالَءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا).
أجاب الله طلب زكريا هذا أيضاً ، وعيّن له علامة ، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدة ثلاثة أيام بغير أيّ نقص طبيعي ، فلم يكن قادراً على المحادثة العادية ، ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح الله ويذكره ، هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة الله على كل شيء ، فالله القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره ، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولداً مؤمناً هو مظهر ذكر الله ، وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريا.