فلما بلغ هذا الخبر أبا سفيان وأدرك صمود المسلمين ، خاف وارعب. هذا وقد حدثت في هذا الموضع حادثة زادت من إضعاف معنوية المشركين ، وهي أنّه : مرّ برسول الله «معبد الخزاعي» وهو يومئذ مشرك ، فلما شاهد النبي وما عليه هو وأصحابه من الحالة تحركت عواطفه وجاشت ، فقال للنبي صلىاللهعليهوآله : يا محمّد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في قومك وأصحابك ، ثم خرج من عند رسول الله صلىاللهعليهوآله حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وأجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراك يا معبد؟ قال : محمّد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قطّ يتحرقون عليكم تحرقاً. وقد اجتمع عليه من كان تخلّف عنه في يومكم ، وندموا على صنيعهم ، وفيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط. فاهتزّ لذلك أبو سفيان ومن معه وقفل راجعاً ومنسحباً إلى مكّة بسرعة ، وحتى يتوقف المسلمون عن طلبه وملاحقته ويجد فرصة كافية للإنسحاب قال لجماعة من بني عبد قيس كانوا يمرون من هناك قاصدين المدينة لشراء القمح : «اخبروا محمّداً إنّا قد أجمعنا الكرّة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيتهم» ثم انصرف إلى مكة.
ولما مرّت هذه الجماعة برسول الله صلىاللهعليهوآله وهو بحمراء الأسد أخبروه بقول أبي سفيان ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «حسبنا الله ونعم الوكيل». وبقي هناك ينتظر المشركين ثلاثة أيام ، فلم ير لهم أثراً فانصرف إلى المدينة بعد الثالثة ، والآيات الحاضرة تشير إلى هذه الحادثة وملابساتها (١). يقول سبحانه : (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أجْرٌ عَظِيمٌ).
ثم إنّ القرآن الكريم يبين إحدى العلائم الحيّة لِاستقامتهم وثباتهم إذ يقول : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
ثم بعد ذكر هذه الإستقامة الواضحة وهذا الإيمان البارز يذكر القرآن الكريم نتيجة عملهم إذ يقول : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مّنَ اللهِ وَفَضْلٍ).
وتأكيداً لهذا الأمر يقول القرآن : (لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ). مضافاً إلى أنّهم (اتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ). إنّه فضل عظيم ينتظر المؤمنين الحقيقيين ، والمجاهدين الصادقين.
(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (١٧٥)
__________________
(١) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.