بلاغة الحديث تستوجب انتخاب موجود ضعيف للتمثيل به ، كيما يتضح ضعف اولئك. في الآية (٧٣) من سورة الحج ، مثلاً يقول سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَايَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).
وما المقصود من (فَمَا فَوْقَهَا)؟ للمفسرين في هذه رأيان :
الأوّل : «فوقها» في الصغر ، لأنّ المقام مقام بيان صغر المثال ، وهذا مستعمل في الحوار اليومي ، نسمع مثلاً رجل يقول لآخر : ألا تستحي أن تبذل كل هذا الجهد من أجل دينار واحد؟ فيجيب الآخر : لا ، بل أكثر من ذلك أنا مستعد لأبذل هذا الجهد من أجل نصف دينار! فالزيادة هنا في الصغر.
الثّاني : «فوقها» في الكبر. أي : إنّ الله يضرب الأمثال بالصغير وبالكبير ، حسب مقتضى الحال.
لكن الرأي الأوّل يبدو أنسب.
ثم تقول الآية : (فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ). فهؤلاء ، بإيمانهم وتقواهم ، بعيدون عن اللجاجة والعناد والحقد للحقيقة.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا).
فيجيبهم الله بعبارة قصيرة تحسم الموقف وتقول : (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ).
هداية الله وإضلاله : الهداية والضلالة ـ في المفهوم القرآني ـ لا يعنيان الإجبار على انتخاب الطريق الصحيح أو الخاطىء ، بل إنّ الهداية ـ المفهومة من الآيات المتعدّدة ـ تعني توفّر سبل السعادة ، والإضلال : يعني زوال الأرضيّة المساعدة للهداية ، دون أن يكون هناك إجبار في المسألة.
توفّر السبل (الذي نسميه التوفيق) ، وزوال هذه السبل (الذي نسميه سلب التوفيق) ، هما نتيجة أعمال الإنسان نفسه. فلو منح الله فرداً توفيق الهداية ، أو سلب من أحد هذا التوفيق ، فإنّما ذلك نتيجة الأعمال المباشرة لهذا الفرد أو ذاك.
الفاسقون : هم المنحرفون عن طريق العبودية ، لأنّ الفسق في اللغة إخراج النوى من التمر ، ثم انتقل إلى الخروج عن طريق الله.