والبركات الآنفة الذكر ، فتاهوا في عالم الأسباب. ولذلك نرى القرآن بعد هذا البيان يقول مباشرة : (لَاتَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
إنّ هذه الآية تستدل على وجود الخالق الواحد عن طريق النظام الواحد الذي يتحكّم بالشمس والقمر والليل والنهار ، وإنّ حاكميته تعالى على هذه الموجودات تعتبر دليلاً على وجوب عبادته.
فالله تعالى يخاطبهم بعد ذلك بقوله : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَايَسَمُونَ) (١).
فليس مهماً أن لا تسجد مجموعة من الجهلة والغافلين حيال جبروت الله وذاته المقدسة الطاهرة ، فهذا العالم الواسع مليء بالملائكة المقربين الذين يركعون ويسجدون ويسبحون له دائماً ولا يفترون أبداً.
ثم إنّ هؤلاء هم بحاجة إلى عبادة الله ولا يحتاج تعالى لعبادتهم ، لأنّ فخرهم وكمالهم لا يتمّ إلّافي ظل العبودية له سبحانه وتعالى.
نعود مرّة اخرى إلى آيات التوحيد التي تعتبر الأرضية للمعاد. يقول تعالى : (وَمِنْءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ).
ثم تنتقل الآية من قضية التوحيد المتمثلة هنا بالحياة التي ما زالت تحيطها الكثير من الأسرار والخفايا والغموض ، إلى قضية المعاد ، حيث يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى).
نعم : (إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).
فدلائل قدرته واضحة في كل مكان ، فكيف نشكّك بالمعاد ونعتبره محالاً؟
«خاشعة» : من «الخشوع» وتعني في الأصل التضرّع والتواضع الملازم للأدب ؛ واستخدام هذا التعبير بخصوص الأرض الميتة اليابسة ، يعتبر نوعاً من الكناية.
«ربت» : من «ربو» على وزن (غلو) وتعني الزيادة والنمو ، والربا مشتق من نفس هذه الكلمة ، لأنّ المرابي يطلب دينه مع الزيادة.
«اهتزت» : من «هز» على وزن «حظ» وتعني التحريك الشديد.
__________________
(١) «يسأمون» : من كلمة «السئامة» وتعني التعب من الإستمرار في العمل أو في موضوع معيّن.