وهم العوام ـ وهو غنى مجازا ـ ومنهم من يعنيه بتصفية أحواله ، وهم الخواص ـ وهو الغنى الحقيقي ، لأن احتياج الخلق الى همة صاحب الحال أكثر من احتياجهم الى لقمة صاحب المال».
وهي عبارة تثير الذهن ليمضي في شؤون من الفكر وشجون.
ولا يستحق اسم «الغني» في الحقيقة الا الله عز شأنه ، لأنهم عرّفوا وصف «الغنى» بأنه «الملك التام» ، فمن كان مالكا من وجه دون وجه ، فليس غنيا ، والله وحده هو «الغني» المالك من كل وجه ، وما سواه فهو فقير اليه. ولذلك قال ابن الاثير : الله الغني الذي لا يحتاج الى أحد في شيء ، وكل أحد يحتاج اليه ، وهذا هو الغنى المطلق ، ولا يشارك الله تعالى فيه غيره ، وهو المغني الذي يغني من يشاء من عباده.
ولقد تحدثت في حلقة من سلسلة «أخلاق القرآن» عن فضيلة «الافتقار الى الله». وقد يقول قائل : ألا يغني هذا الحديث عن الكلام عن : «الغنى بالله»؟. والجواب عن هذا السؤال يوجد في عبارة للامام ابن القيم يقول فيها : «ومن منازل «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» منزلة الغنى العالي ، وهو نوعان : غنى بالله وغنى عن غير الله ، وهما حقيقة الفقر ، ولكن أرباب الطريق أفردوا للغنى منزلة».
واذا كان الغنى بالله فضيلة من فضائل القرآن الكريم ، وجانبا من هدى الرسول الكريم ، فقد قالوا ان الغنى بالله درجات : درجة غنى القلب ، بمعنى تعلقه بالله وحده ، دون تعلق بغيره ، أو تطلع الى سواه ، ثم غنى النفس ـ والنفس من جنود القلب ـ وهو أن تصبح سالمة من تطلعها الى حظوظ الحياة ، وبراءتها من آفة المراءاة ، حيث لا تريد بأعمالها وأقوالها وأحوالها غير وجه الله ، وتدوم على التوجه الى الله ، والطلب منه وحده ثم الغنى بالحق ، ورؤية الانسان جلال ربه قبل كل شيء.