المبشرات فقال (١) : (لم يبق من النبوة إلا المبشرات)! قالوا : وما المبشرات يا رسول الله! قال (الرؤيا الصالحة ، يراها الرجل الصالح ، أو ترى له).
وأما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم ، فعلى ما أصفها لك : وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيوانيّ الجسمانيّ ، وهو بخار لطيف ، مركزه بالتجويف الأيسر من القلب ـ على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره ـ وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة ، وسائر الأفعال البدنية ، ويرتفع لطيفه إلى الدماغ ، فيعدل من برده ، وتتم أفعال القوى التي في بطونه. فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري ، وهي متعلقة به ، لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف. ولمّا لطف هذا الروح الحيوانيّ من بين المواد البدنية ، صار محلّا لآثار الذات المباينة له في جسمانيته ، وهي النفس الناطقة ، وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته.
وقد كنا قدّمنا أن إدراكها على نوعين : إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس ، وإدراك بالباطن وهو بالقوى الدماغية. وأن هذا الإدراك كله صرف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية ، التي هي مستعدة له بالفطرة. ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية ، كانت معرضة للوسن والفشل ، بما يدركها من التعب والكلال ، وتغشى الروح بكثرة التصرف ، فخلق الله لها طلب الاستجمام ، لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة. وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيوانيّ من الحواس الظاهرة كلها ، ورجوعه إلى الحس الباطن. ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل ، فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن ، وتذهب من ظاهره إلى باطنه ، فتكون مشيعة مركبها ، وهو الروح الحيوانيّ ، إلى الباطن. ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل. فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة ، ورجع إلى القوى الباطنة ، وخفّت عن النفس شواغل الحس وموانعه ، ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة ، تمثل منها بالتركيب والتحليل صورة خيالية وأكثر ما تكون معتادة ، لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريبا. ثم ينزلها الحس المشترك ، الذي هو جامع الحواس الظاهرة ، فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة.
وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية ، مع منازعتها القوى الباطنية ،
__________________
(١) أخرجه البخاريّ في : التعبير ، باب المبشرات ، حديث ٢٥٤١.