الأوهام. قال عليه الرحمة : هذا مقام يكثر خوض النفوس فيه. فإن كثيرا من الناس ، إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدر وقال : حتى يقدّر الله ذلك ، أو يقدّرني الله على ذلك ، أو حتى يقضي الله ذلك. وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرّم الله قال : الله قضاه عليّ بذلك ، ونحو هذا الكلام. والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة. باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين. والمحتجّ به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة ، إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه وترك ما يجب عليه من حقوقه. بل يطلب منه ما له عليه ، ويعاقبه على عدوانه عليه. وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم. فكأنك تعلم فسادها بالضرورة. وإن كانت تعرض كثيرا للكثير من الناس. حتى قد يشك في وجود نفسه. وغير ذلك من المعارض الضرورية. فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب ، وغير ذلك. وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك. ولكن تعلم القلوب بالضرورة أن هذه شبهة باطلة. ولهذا لا يقبله أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله. فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة ، وهو المأمور وهو الذي ينبغي فعله ، ولم يحتج بالقدر. وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله ، أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورا به ـ لم يحتج بالقدر. بل إذا كان متبعا لهواه بغير علم ، احتج بالقدر. ولهذا لما قال المشركون : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٤٨] ، قال الله تعالى : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا ، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٩] ، (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة وباطلة. فإن أحدهم لو ظلم الآخر أو حرج في ماله أو فرج امرأته أو قتل ولده أو كان مصرّا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال : لو شاء الله لم أفعل هذا ـ لم يقبلوا منه هذه الحجة. ولا هو يقبلها من غيره. وإنما يحتج بها المحتج دفعا للّوم بلا وجه. فقال الله تعالى : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله ، وأنه مصلحة ينبغي فعله (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) فإنه لا علم عندكم بذلك ، إن تظنون ذلك إلا ظنا (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) وتفترون. فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم. ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدّره. فإن مجرد المشيئة والقدرة لا تكون عمدة لأحد في الفعل. ولا حجة لأحد على أحد ولا عذرا لأحد. إذا الناس كلهم مشتركون في القدر. فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق