وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثا. ورابعا بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها. فلم ينفتح لهم طريق الفهم ، وعلى سمعهم وأبصارهم بسدّ طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب. فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور. ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع. وخامسا بكونهم هم الغافلين ، بالحقيقة ، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه. وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب. وجليّ ، أن كل نقمة من هذه الخمس ، على انفرادها ، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات. فكيف بها كلها!
قال الرازي : ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة. فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه. فلهذا قال : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم ، وأتلفوا في طلبها أعمارهم ، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات.
تنبيهات :
الأول : (من) في قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ) موصول مبتدأ خبره (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) وقوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) استثناء مقدم من حكم الغضب. وقوله (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) رجوع إلى صدر الآية وحكمها ، بأسلوب مبيّن لمن كفر ، موضح له. بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير. وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد ، ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن.
الثاني : استدل بالآية على أن المكره غير مكلف. وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة الكفر ، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان. واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه ، وكل قول أو فعل صدر منه. إلّا ما استثنى. أفاده السيوطي في (الإكليل).
الثالث : روي عن ابن عباس : أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذّبه المشركون حتى يكفر بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم فوافقهم مكرها. ثم جاء معتذرا. قال ابن جرير : أخذ المشركون عمارا فعذّبوه. حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال له : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئنا بالإيمان. قال صلىاللهعليهوسلم : إن عادوا فعد.
وقال ابن إسحاق : إن المشركين عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلىاللهعليهوسلم من