تؤمّل لعرف باطنه ، وهو في المعنى كالأول. وعلى كليهما ، هو منصوب على الظرفية. والعامل فيه إما (نراك) أو (اتبعك).
قال الناصر : زعم هؤلاء أن يحجّوا نوحا بمن اتبعه من وجهين :
أحدهما ـ أن المتبعين آراءه ، ليسوا قدوة ولا أسوة.
والثاني ـ أنهم مع ذلك لم يتروّوا في اتّباعه ، ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به ، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية ، وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقه وآمن به ـ انتهى ـ.
أي وكلا الوجهين يبرهنان على جهلهم وقصر عقلهم : أما الأول فلا خفاء في أنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه ، بل أتباعه هم الأشراف ، ولو كانوا فقراء ، والذين يأبونه هم الأدنون ، ولو كانوا أغنياء. وفي الغالب ، ما يتبع الحق ، إلا ضعفة الخلق ، كما يغلب على الكبراء مخالفته ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ، ولما سأل (١) هرقل ، ملك الروم ، أبا سفيان عن نعوت النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال لهم فيما قال : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال : بل ضعفاؤهم! فقال هرقل : هم أتباع الرسل.
وأما الثاني : فإن البدار لاعتناق الحق من أسمى الفضائل ، لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال ، ولا بد من اتّباعه حالتئذ لكل ذي فطنة ، ولا يتردد إلا غبيّ أو عييّ ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهمالسلام.
وقوله تعالى : (وَما نَرى لَكُمْ) خطاب لنوح وأتباعه (عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي تقدّم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة ، لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والمال.
قال الزمخشري : كان الأشرف عندهم من له جاه ومال ، كما ترى أكثر المتّسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم. ولقد زلّ عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرّب أحدا من الله ، وإنما يبعده ولا يرفعه ، بل يضعه ، فضلا عن أن يجعله سببا في الاختيار للنبوّة ، والتأهيل لها. على أن الأنبياء عليهمالسلام بعثوا مرغّبين في طلب الآخرة. مصغّرين لشأن الدنيا ، وشأن من أخلد إليها ، فما أبعد حالهم عليهمالسلام من الاتّصاف بما يبعد من الله ، والتشرف بما هو ضعة عند الله!
__________________
(١) أخرجه البخاري في : بدء الوحي ، ٦ ـ حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، حديث رقم ٧.