الإيمان المعتبر الحقيقيّ ، وهو اليقين الثابت في القلب المستقر الذي لا ارتياب معه ، لا الذي يكون على سبيل الخطرات ، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم ، ونورتها بأنوارها ، فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثرت بها الجوارح ، فلم يمكنها إلا الجري بحكمها ، والتسخر لهيأتها ، وذلك معنى قوله : (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بعد نفي الارتياب عنهم ، لأن بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ ، وأثره في الظاهر. انتهى.
الثالث ـ قال في (الكشاف) : فإن قلت : ما معنى (ثم) هاهنا ، وهي للتراخي. وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارنا للإيمان ، لأنه وصف فيه ، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت : الجواب على طريقين :
أحدهما ـ أن من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان ، أو بعض المضلين ، بعد ثلج الصدر ، فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه. أو نظر هو نظرا غير سديد يسقط به على الشك ، ثم يستمر على ذلك ، راكبا رأسه ، لا يطلب له مخرجا. فوصف المؤمنون حقّا بالبعد عن هذه الموبقات. ونظيره قوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا).
والثاني ـ أن الإيقان وزوال الريب ، لما كان ملاك الإيمان ، أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيها على مكانه. وعطف على الإيمان بكلمة التراخي ، إشعارا باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضّا جديدا. انتهى.
يعني : أنه إما لنفي الشك عنهم فيما بعد ، فدل على أنهم كما لم يرتابوا أولا لم تحدث لهم ريبة ، فالتراخيّ زمانيّ لا رتبيّ على ما مرّ في قوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا). أو عطفه عليه عطف جبريل على الملائكة ، تنبيها على أصالته في الإيمان ، حتى كأنه شيء آخر. فثم دلالة على استمراره قديما وحديثا.
القول في تأويل قوله تعالى :
(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٦)
(قُلْ) أي لهؤلاء الأعراب القائلين بأفواههم (آمَنَّا). (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أي أتخبرونه بقولكم (آمَنَّا) ، بطاعتكم إياه لتكونوا مع المؤمنين عنده ، ولا تبالون بعلمه بما أنتم عليه ، من التعليم ، بمعنى الإعلام والإخبار ، فلذا تعدى