وقد ذكر بعض السلف : أن أصحاب الجنة هؤلاء كانوا من أهل اليمن كانوا من قرية يقال لها : «ضروان» على ستة أميال من صنعاء .. وكان أبوهم قد ترك لهم هذه الجنة ، وكانوا من أهل الكتاب ، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة ، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليه ، ويدخر لعياله قوت سنتهم ، ويتصدق بالفاضل.
فلما مات وورثه أولاده ، قالوا : لقد كان أبونا أحمق ، إذ كان يصرف من هذه الجنة شيئا للفقراء ، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك لنا ، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم ، فقد أذهب الله ما بأيديهم بالكلية : أذهب رأس المال ، والربح .. فلم يبق لهم شيء .. (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلَوْناهُمْ) أى : اختبرناهم وامتحناهم ، مأخوذ من البلوى ، التي تطلق على الاختبار ، والابتلاء قد يكون بالخير وقد يكون بالشر ، كما قال ـ تعالى ـ : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) .. وكما في قوله ـ سبحانه ـ : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
والمراد بالابتلاء هنا : الابتلاء بالشر بعد جحودهم لنعمة الخير.
أى : إنا امتحنا مشركي قريش بالقحط والجوع. حتى أكلوا الجيف ، بسبب كفرهم بنعمنا ، وتكذيبهم لرسولنا صلىاللهعليهوسلم كما ابتلينا من قبلهم أصحاب الجنة ، بأن دمرناها تدميرا ، بسبب بخلهم وامتناعهم عن أداء حقوق الله منها ..
ويبدو أن قصة أصحاب الجنة ، كانت معروفة لأهل مكة ، ولذا ضرب الله ـ تعالى ـ المثل بها. حتى يعتبروا ويتعظوا ..
ووجه المشابهة بين حال أهل مكة ، وحال أصحاب الجنة .. يتمثل في أن كلا الطرفين قد منحه الله ـ تعالى ـ نعمة عظيمة ، ولكنه قابلها بالجحود وعدم الشكر.
و (إِذْ) في قوله : (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ..) تعليلية.
والضمير في (أَقْسَمُوا) يعود لمعظمهم ، لأن الآيات الآتية بعد ذلك ، تدل على أن أوسطهم قد نهاهم عما اعتزموه من حرمان المساكين ، ومن مخالفة ما يأمرهم شرع الله ـ تعالى ـ به ..
قال ـ تعالى ـ : (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ...).
وقوله : (لَيَصْرِمُنَّها) من الصرم وهو القطع. يقال : صرم فلان زرعه ـ من باب ضرب ـ إذا جزّه وقطعه ، ومنه قولهم : انصرم حبل المودة بين فلان وفلان ، إذا انقطع.
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٢٣.