ملتبس بكم (وَاتَّقُوا اللهَ) في فعل ما أمركم به ، وترك ما نهاكم عنه ، (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ما تحتاجون إليه من العلم ، وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه ، ومنه قوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (١). قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة والإشهاد لحفظ الأموال ودفع الريب ، عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب ، ونص على حالة السفر ، فإنها من جملة أحوال العذر ، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر ، وجعل الرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة ، أي : فإن كنتم مسافرين (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) في سفركم (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) قال أهل العلم : الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل ، وفي الحضر بفعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كما ثبت في الصحيحين «أنه صلىاللهعليهوسلم رهن درعا له من يهوديّ». وقرأ الجمهور «كاتبا» أي رجلا يكتب لكم. وقرأ ابن عباس ، وأبيّ ، ومجاهد ، والضحاك ، وعكرمة وأبو العالية : «كتابا» قال ابن الأنباري : فسره مجاهد فقال : معناه فإن لم تجدوا مدادا : يعني في الأسفار. وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير «فرهن» بضم الراء والهاء. وروي عنهما تخفيف الهاء جمع رهان ، قاله الفراء ، والزجاج ، وابن جرير الطبري. وقرأ عاصم بن أبي النجود «فرهن» بفتح الراء وإسكان الهاء. وقراءة الجمهور : «رهان». قال الزجاج : يقال في الرهن : رهنت وأرهنت ، وكذا قال ابن الأعرابي والأخفش. وقال أبو علي الفارسي : يقال : أرهنت في المعاملات ، وأما في القرض والبيع : فرهنت ، وقال ثعلب : الرواة كلهم في قول الشاعر :
فلمّا خشيت أظافيرهم |
|
نجوت وأرهنتهم مالكا |
على أرهنتهم ، على أنه يجوز : رهنته وأرهنته ، إلا الأصمعي فإنه رواه وأرهنهم على أنه عطف لفعل مستقبل على فعل ماض ، وشبهه بقوله : قمت وأصك وجهه. وقال ابن السكيت : أرهنت فيهما : بمعنى أسلفت ، والمرتهن الذي يأخذ الرهن ، والشيء مرهون ورهين ، وراهنت فلانا على كذا مراهنة : خاطرته. وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار القبض كما صرح به القرآن ، وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون قبض. قوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) أي : إن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق ، لحسن ظنه به ، وأمانته لديه ، واستغنى بأمانته عن الارتهان (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهو المديون (أَمانَتَهُ) أي : الدين الذي عليه ، والأمانة : مصدر سمى به الذي في الذمة ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة ، وقرئ «أيتمن» بقلب الهمزة ياء ، وقرئ بإدغام الياء في التاء وهو خطأ ، لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها في حكمها (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في أن لا يكتم من الحق شيئا. قوله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة ، وهو في حكم التفسير لقوله : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ) أي : لا يضارر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدّمين. قوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله ، ولكونه رئيس الأعضاء ، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد كله ، وارتفاع القلب : على أنه فاعل أو مبتدأ ، وآثم : خبره على ما تقرر في علم النحو ؛ ويجوز أن يكون قلبه : بدلا من آثم ، بدل البعض من الكل ، ويجوز أن يكون
__________________
(١). الأنفال : ٢٩.