هى تلك البداية الحقة التى بدأ الله بها رسالته الخالدة ، رسالة الإسلام ، عن طريق الوحى الذى نزل به جبريل ، عليهالسلام ، على محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوسلم.
بداية اليقظة العقلية والروحية التى كانت بداية حقيقية لهذه الإنسانية التى أرادها الله ، بداية التعرف على موجد الكائنات ، وخالق الإنسان ، وإزالة الغشاوة التى رانت على العيون والعقول والقلوب ، فباعدت بينها وبين الحقيقة الكبرى ، وهى معرفة الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذى لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، معرفة حقيقية جديرة بخطوات ذلك الإنسان الذى خلقه الله على هذه الأرض ، خطوات تنبع من تلك الكلمة الآسرة ، الآمرة لرسول الله ، وللإنسان العاقل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ١ ـ ٥].
البداية بالعلم ، والعلم هو المعرفة بكل ما تحمله هذه الكلمة فى طياتها من معان المعرفة بكل ما يقع فى الحياة ، والنفس ، والكون ، وبكل ما تحتاج إليه هذه النفس البشرية فى حياتها ومجتمعاتها وعقائدها ، العلم بحقيقة الوجود ، وموجده ، بالله خالق الخلق ، والإيمان بوحدانية الله ، وتنزيهه عن تلك الأفكار الضالة الجاهلة التى تفشت ، فأوقعت النفس فى الشرك بالله ، واتخاذ الأصنام والأحجار ، والمعبودات الباطلة ، التى لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعا ولا ضرا ، ولا حياة ولا نشورا.
المعرفة إذن هى الطاقة التى فتحت بأنوارها الكاشفة ، فكانت البداية لتطهير النفس البشرية ، حتى تكون فى صفائها ونقائها ، أهلا لتلقى أمر الله بالتكاليف والأوامر ، واتباع ما يأتى من قبله بإيمان واقتناع يعلى من شأن الإنسان كإنسان له رأيه الخاص الذى ينفرد به ، وله شخصيته الواضحة التى تخلعه عن الاتباع والتقليد لمن سبقه من آباء وأجداد ، فى هفواتهم ، وسقطاتهم ، وجهالاتهم ، والتى يقولون فيها : (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٧٠].
فهذا التقليد يتنافى مع إيمان المؤمن القوى بعقله ، وروحه ، وقلبه ، ويجعله مسخا مشوها للإنسان الذى يجب أن يزن الأمور بميزان العقل ، ويعلم أن لكل شىء نهاية ، وأن وراء كل عمل جزاء ، وأن الفرق بين الحق والباطل واضح ، ويترتب على ذلك حساب الله وعقابه يوم القيامة ، (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ)