فى حياتنا الحاضرة ، فالانطلاقة البهيمية فى الشذوذ الفكرى ، والتحرر من كل معتقد صائب ، ومن كل دين وقيمة ، لها من الخطورة والضياع ما للأولى من المهانة والاستخفاف بالإنسان وإمكانياته ، وأولى بالإنسان أن يأخذ طريقه فى الحياة دون جهالة مميتة ، أو عجب قاتل ، حتى يكون كما قال الشاعر :
إذا المرء لم يدر ما أمكنه |
|
ولم يأت من أمره أزينه |
وأعجبه العجب فاقتاده |
|
وتاه به العجب فاستحسنه |
فدعه فقد ساء تدبيره |
|
سيضحك يوما ويبكى سنه |
وإذا كانت الحرية هى اللبنة الأولى فى بناء الإنسان ، فإنها لا تكمل إلا إذا صحبتها عزمات قوية ، وإحساسات بالكرامة التى ترتقى بالإنسان إلى عزة تنزهت عن الهون ، وابتعدت عما يشين خلق الإنسان ، أو يجعله مضغة فى الأفواه ، أو يصمه بوصمة عار تنتقل من نفسه إلى عقبه ، قوانين للحياة ليست غريبة عن دعوات الأديان ، بل هى فى صميمها وجوهرها.
فكم من نداء ودعوة سمعناها من أفواه الرسل ، عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام ، وهم يدعون قومهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم دون انتظار لمكسب مادى رخيص ، أو ابتغاء أجر على دعوتهم ، (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) [الأنعام : ٩٠] ، (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [غافر : ٤٤].
وما لنا لا نذكر هذا الموقف لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يستعرض ما تفتقت عنه حيل المشركين وتفكيرهم المريض ، ليثنوه عن طريقه ودعوته ، وقوله : «والله يا عم ، لو وضعوا الشمس فى يمينى ، والقمر فى يسارى ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه» ، مغريات الدنيا بما فيها من مال ، ومكانة ، وملك ، لا تقف بصاحب العقيدة عن طريقه ، أو تبعده عن مسلكه الذى هيأه الله.
وهكذا طريق الإنسان الحر الكريم على نفسه وعلى قومه ، سواء كان رجلا أو امرأة ، طريق سلكه أولئك العظماء من الذين مهدوا الطريق وساروا ، فلم يهنوا ولم يضعفوا ، ولم يقفوا أمام مغريات الدنيا بمختلف ألوانها وصنوفها ، موقف الخاضع لها ، الذليل أمام مغرياتها ، وقد نطقت بذلك أمثال العرب فى هذا المنحى الكريم ، فقالت كما روت ذلك كتب الأدب :