عبثا ولا جزافا ، ولكن ليعتبر بها عباده ، وليستدلوا بها على وحدانيته سبحانه ، وكمال قدرته ، وأنه إنما خلقها لمنافع العباد ، بلاغا لهم فى دار التكليف ، وعونا لهم على اكتساب ما يسعدهم فى دار الجزاء ، وهو معنى قوله : (بِالْحَقِ) والباء فيه إما سببية ، أو حالية ، أى ما خلقهما إلا للحق ، أو ملتبسة بالحق مقرونة به ، لا باطلا ، ولا عبثا خاليا عن حكمة بالغة ، ولا لتبقى خالدة ، وإنما خلقها مؤجلة بأجل مسمى ، بعده يكون البعث ، وفى قوله : (وَما بَيْنَهُما) ما يفيد أن هناك مخلوقات بين السماء والأرض بها كمال المنافع ، وتمام النظام.
وإما أن يكون قوله : (فِي أَنْفُسِهِمْ) هو متعلق التفكير وموضوعه ، والمعنى عليه : هلا تفكروا فى أمر أنفسهم التى هى أقرب المخلوقات إليهم ، وهم أعلم بأحوالها ، حتى يتضح لهم كمال قدرة الله تعالى ، فإن من تفكر فى تشريح بدن الإنسان ، وما أودع فيه من غرائب التدبير الإلهى ، حصل له العلم القطعى بأن الله تعالى فاعل مختار ، كامل العلم والقدرة ، منزه عن الشركاء والأنداد ، وحصل له كذلك العلم بحقيقة البعث والجزاء ؛ لأنه إذا تفكر فى نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال ، وأجزاءه ماثلة إلى الانحلال ، فيقطع ، بأنه سيفنى عن قريب ، فلو لم يكن له حياة أخرى ، لكان خلقه على هذا النحو عبثا ، كما أشير إليه بقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] ، وهذا ظاهر ؛ لأن من بالغ فى تدبير شىء سيفنى عن قريب بالكلية ، وصوره أحسن تصوير ، واعتنى فى انتظام أحواله أبلغ ما يمكن من الاعتناء ، مع علمه بأنه يصير عن قريب كأن لم يكن شيئا مذكورا ، لا شك أن يضحك منه ويتعجب من سفاهته ، فمن تفكر فى شأن نفسه على هذا الوجه علم أنه تعالى خلقه للبقاء ، ولا بقاء إلا بالحشر ، فظهر أن تفكر الإنسان فى أمر نفسه يؤديه إلى القطع بأن العالم كله له ، إله واحد قادر على الإبداء والإعادة ، ويكون قوله تعالى : (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) [الروم : ٨] ، جملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها ، ذكرت بعد إقامة دليل الأنفس استدلالا بدليل الآفاق.
وبعد ، فهذه براهين يقينية قطعية على إمكان البعث وجوازه ، وأما تحقق الوقوع ، فليس له إلا إخبار الصادق المصدوق الذى قامت المعجزة القاهرة على صدقه ، وهو الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهذا ما يستدعينا أن نتكلم عن المطلب الثالث الذى أنكره الماديون ، وهو إثبات رسالة محمد ، صلوات الله وسلامه عليه.