وإذا ما قيل بعد هذا : أن سورة البقرة مدنية باتفاق ، قلنا معناه : أن أغلبها لا كلها ، أو إن القاعدة أكثرية لا كلية ، فقد يكون بعض السور مدنيا وفيه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) كسورة البقرة ، وقد يكون بعض السور مكيا وفيه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كسورة الحج.
تأكيد وتقرير لهذه المطالب الثلاث :
نعم أكد القرآن الكريم هذه المطالب الثلاثة ، حيث أورد الله تعالى عقب تلك المطالب تعداد النعم العامة لجميع بنى آدم ، حيث قال جل شأنه : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) إلى قوله سبحانه : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٨ ، ٢٩] ، فقد سيقت هاتان الآيتان تعدادا لنعم بنى آدم ، وهذه النعم تقرر دليل الوحدانية من حيث إنها أمور حادثة لا بدّ لها من محدث منفرد بوجوب الوجود ، وصفات الكمال ، وتقرر دليل المعاد أيضا من حيث إن تلك النعم مشتملة على خلق الإنسان وأصوله ، فإنهم كانوا فى الأصل أجساما لا حياة لها ، عناصر وأغذية ، وأخلاطا نطفا ومضغا مخلّقة وغير مخلّقة ، تامة الخلق ، وغير تامة الخلق ، ثم أحياها الله تعالى بخلق الأرواح ونفخها فيها ، ومشتملة على خلق ما هو أعظم من ذلك ، وهو ما فى الأرض والسموات ، ولا شك أن من قدر على خلق هذه الأمور ابتداء قادر على خلقها إعادة.
وأما تقرير نبوّة سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، فيؤكده ويقرره قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، إلى آخر القصة من حيث إن نبينا ، عليه الصلاة والسلام ، أخبر عن أحوال آدم وحواء ، وما وقع لهما من الحوادث والجزئيات التى لم يقف عليها إلا من له المعرفة بالكتب السماوية ، فإنها مذكورة فيها ، وهو عليه الصلاة والسلام ، نشأ بين قوم أميين ولم يعرف بالاختلاف إلى أحد من أهل الكتاب ، ولم يكن له معرفة بألسن الذين ذكرت القصص فى كتبهم ، ولم يغترب عن وطنه مدة يمكن التعلم منها ، ولم يوجد النكير ممن له المعرفة بالكتب فى شىء مما أخبر به.
فدل ذلك على أنه علم من طريق الوحى من الله تعالى إليه ، فكان ذلك دليلا قطيعا على نبوّته ، إذ لا يعلم الغيب إلا الله تعالى ومن ارتضاه لرسالته ، فيظهر الغيب عليه ليبلغه إلى الخلق لينتفعوا بما فيه من إصلاح دينهم ودنياهم.