جعل اليهود لأنفسهم ، بل المؤمنين ، وإن جل قدرهم ، غير الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، لا يزول عنهم خوف الخاتمة ، ومن كان قد ابتلى بشيء من الخطايا ، فهو مفتقر إلى زمن يتدارك فيه ما فاته ، فلهذا لم يتمن المؤمنون الموت ، فأما اليهود ، فقد ادعوا أنهم من أهل الجنة ، وليس بها شىء من الشدة ، والدنيا دار شدة وبلية ، فلا معنى لامتناعهم عن تمنى الموت لو كانوا صادقين فى دعواهم.
وثانيهما : أنهم كانوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وفى تمنيهم الموت وصول إلى أبيهم وحبيبهم فى زعمهم ، ولا أحد يرغب ولا ينفر عن الحبيب والأب ، فدل امتناعهم من ذلك على كذبهم فى دعواهم ، وأما المسلمون فلا يدعون ذلك ، ولا يتمنون الموت ، بل يرغبون فى امتداد الحياة لمزيد الأعمال الصالحة كما هو ظاهر.
وقوله : (خالِصَةً) الخالص كالصافى ، لكن الصافى يقال فيما لم يكن فيه شوب قبل ذلك ، ولا يقال : خالص ، إلا إذا كان فيه شوب من قبل فزال ، وقوله : (مِنْ دُونِ النَّاسِ) لفظ (دُونِ) لما كان فى الأصل اسما للقاصر عن الشيء ، اعتبر ذلك فى المكان تارة ، وفى الشرف تارة ، وفى الاختصاص تارة ، فيقال فى المكان : دونك هذا ، أى خذه من أدنى مكان منك. ويقال فى الاختصاص : هذا إلى دونك ، ويقال فى الشرف : فلان دون فلان ، أى أقل منه رتبة ومنزلة.
فإن قيل : كيف قال : (مِنْ دُونِ النَّاسِ) والمخاطبون أيضا هم الناس؟ قيل : المراد بالناس أكثرهم ، إذ لفظه عام ، ومعناه خاص ، أى دون باقى الناس وسائرهم. وقال بعضهم : فيه لطيفة ، وهى أنه جل جلاله يعرض بهم ، ويشير بأنهم ليسوا من الناس ، والكلمة بأصل وضعها تحتمل المدح والذم ، فالمدح نحو قولك : فلان ليس بإنسان ، بل هو ملك كريم ، والذم نحو قولك : يغرنك من فلان مظهر صلاحه ، فهو ليس بإنسان ، إذ المعنى أنه أحط إلى درجة الحيوانية ، ولا شك أنهم من القبيل الثانى ، فهذه هى اللطيفة التى فى الآية التى قال بها البعض.
وقد أخبر الله تعالى أنهم لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ، وفى هذا بيان للعلة التى بسببها لا يتمنون الموت ، فإنهم عالمون بما صنعوا من الكفر بعيسى والإنجيل ، وبمحمد صلىاللهعليهوسلم وبالقرآن ، وبتحريف التوراة ، فيعلمون بما لهم عند الله تعالى من العذاب الأليم والعقاب الدائم ، وأنه لا نصيب لهم فى الجنة ، وإنما قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)