وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى |
|
فلم يستجبه عند ذاك مجيب |
(إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) اللام متعلقة بقوله (اسْتَجِيبُوا) أي : استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم ، ولا مانع من أن تكون متعلقة بدعا ، أي : إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة ، فإن العلم حياة ، كما أن الجهل موت ، فالحياة هنا : مستعارة للعلم ، قال الجمهور من المفسّرين : المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمّنه القرآن من أوامر ونواه ، ففيه الحياة الأبدية ، والنعمة السّرمدية ؛ وقيل : المراد بقوله (لِما يُحْيِيكُمْ) الجهاد ، فإنّه سبب الحياة في الظاهر ، لأن العدوّ إذا لم يغز غزا ، ويستدلّ بهذا الأمر بالاستجابة على أنه : يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله ، أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية ؛ أن يبادر إلى العمل به كائنا ما كان ، ويدع ما خالفه من الرأي ، وأقوال الرجال. وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة ، وترك التقيد بالمذاهب ، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائنا ما كان. قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) قيل معناه : بادروا إلى الاستجابة ، قبل أن لا تتمكّنوا منها ، بزوال القلوب التي تعقلون بها ، بالموت الذي كتبه الله عليكم ؛ وقيل معناه : إنه خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدوّ ، فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه ، بأن يبدلهم بعد الخوف أمنا ، ويبدل عدوّهم من الأمن خوفا ؛ وقيل : هو من باب التمثيل لقربه سبحانه من العبد كقوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١) ومعناه : أنه مطلع على ضمائر القلوب لا تخفى عليه منها خافية. واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عزوجل ، بأنه أملك لقلوب عباده منهم ، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئته عزوجل ، ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) معطوف على (أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) وأنكم محشورون إليه وهو مجازيكم بالخير خيرا ، وبالشرّ شرّا ، قال الفراء : ولو استأنفت فكسرت همزة (أَنَّهُ) لكان صوابا ، ولعل مراده : أن مثل هذا جائز في العربية. قوله (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) أي : اتّقوا فتنة تتعدى الظالم ، فتصيب الصالح والطالح ، ولا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم.
وقد اختلف النحاة في دخول هذه النون المؤكدة في (تُصِيبَنَ) فقال الفراء : هو بمنزلة قولك : انزل عن الدابة لا تطرحنك ، فهو جواب الأمر بلفظ النهي ، أي : إن تنزل عنها لا تطرحنك ، ومثله قوله تعالى (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) (٢) أي : إن تدخلوا لا يحطمنكم ، فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء ، وقال المبرد : إنه نهي بعد أمر. والمعنى : النهي للظالمين ، أي : لا يقربنّ الظلم ، ومثله ما روي عن سيبويه لا أرينك هاهنا ، فإن معناه : لا تكن هاهنا ، فإن من كان هاهنا رأيته. وقال الجرجاني : إنّ : لا تصيبنّ ، نهي في موضع وصف لفتنة ، وقرأ عليّ وزيد بن ثابت وأبيّ وابن مسعود لتصيبنّ على أن اللام جواب لقسم محذوف ، والتقدير : اتقوا فتنة والله لتصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة ، فيكون معنى هذه القراءة مخالفا لمعنى قراءة الجماعة ، لأنها تفيد أن الفتنة تصيب الظالم خاصة بخلاف قراءة الجماعة. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ومن شدّة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه ، وقد وردت
__________________
(١). ق : ١٦.
(٢). النمل : ١٨.