الذوق بالفم ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم من الضرب والعذاب والباء في (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) سببية ، أي : ذلك واقع بسبب ما كسبتم من المعاصي ، واقترفتم من الذنوب ، وجملة (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : والأمر أنه لا يظلمهم ، ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة الواقعة خبرا لقوله : (ذلِكَ) وهي (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي : ذلك العذاب بسبب المعاصي ، وبسبب (أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لأنه سبحانه قد أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وأوضح لهم السبيل ، وهداهم النجدين ، كما قال سبحانه : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١) قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) لما ذكر الله سبحانه ما أنزله بأهل بدر ، أتبعه بما يدل على أن هذه سنته في فرق الكافرين ، والدأب : العادة ، والكاف : في محل الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف ، أي : دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). والمعنى : أنه جوزي هؤلاء كما جوزي أولئك ، فكانت العادة في عذاب هؤلاء كالعادة الماضية لله في تعذيب طوائف الكفر ، وجملة قوله : (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) مفسرة لدأب آل فرعون ، أي : دأبهم هذا هو أنهم كفروا بآيات الله ، فتسبب عن كفرهم أخذ الله سبحانه لهم ، والمراد بذنوبهم : معاصيهم المترتبة على كفرهم ، فيكون الباء في (بِذُنُوبِهِمْ) للملابسة ، أي : فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها ، وجملة (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى العقاب الذي أنزله الله بهم ، وهو مبتدأ وخبره ما بعده ، والجملة جارية مجرى التعليل لما حلّ بهم من عذاب الله. والمعنى : أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله ، وغمط إحسانه ، وإهمال أوامره ونواهيه ، وذلك كما كان من آل فرعون ومن قبلهم ، ومن قريش ومن يماثلهم من المشركين ، فإن الله فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ، ومنّ عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فقابلوا هذه النعم بالكفر فاستحقوا تغيير النعم ، كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه ، والعمل به من شكرها وقبولها ، وجملة (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) معطوفة على (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً) داخلة معها في التعليل ، أي : ذلك بسبب أن الله لم يك مغيرا إلخ ، وبسبب أن الله سميع عليم يسمع ما يقولونه ويعلم ما يفعلونه. وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف ، ثم كرّر ما تقدّم ، فقال (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) لقصد التأكيد ، مع زيادة أنه كالبيان للأخذ بالذنوب بأنه كان بالإغراق ؛ وقيل : إن الأوّل باعتبار ما فعله آل فرعون ومن شبه بهم ، والثاني باعتبار ما فعل بهم ؛ وقيل المراد بالأوّل كفرهم بالله ، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء ؛ وقيل : غير ذلك مما لا يخلو عن تعسف ، والكلام في (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) كالكلام المتقدّم في : فأخذهم الله بذنوبهم (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) معطوف على أهلكناهم ، عطف الخاص على العام ، لفظاعته وكونه من أشدّ أنواع الإهلاك ، ثم حكم على كلا الطائفتين من آل فرعون والذين من قبلهم ، ومن كفار قريش بالظلم لأنفسهم ، بما تسببوا به لعذاب الله من الكفر بالله وآياته ورسله ، وبالظلم لغيرهم ، كما كان يجري منهم في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم.
__________________
(١). النحل : ١١٨.