والفائدة في قول الأشهاد بهذه المقالة : المبالغة في فضيحة الكفار ، والتّقريع لهم على رؤوس الأشهاد ، ثم وصف هؤلاء الظّالمين الذين لعنوا : بأنهم (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : يمنعون من قدروا على منعه عن دين الله والدخول فيه (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي : يصفونها بالاعوجاج تنفيرا للناس عنها ، أو يبغون أهلها أن يكونوا معوجين بالخروج عنها إلى الكفر ، يقال : بغيتك شرّا ؛ أي طلبته لك (وَ) الحال أن (هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي : يصفونها بالعوج ، والحال أنهم بالآخرة غير مصدّقين فكيف يصدون الناس عن طريق الحق وهم على الباطل البحت؟ وتكرير الضمير : لتأكيد كفرهم واختصاصهم به ، حتى كأن كفر غيرهم غير معتد به بالنسبة إلى عظيم كفرهم (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : ما كانوا يعجزون الله في الدنيا إن أراد عقوبتهم (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم وإنزال بأسه بهم ، وجملة : (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) مستأنفة ، لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم ليكون عذابا مضاعفا. وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ويزيد ، ويعقوب يضعف مشدّدا (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) أي أفرطوا في إعراضهم عن الحق وبغضهم له ، حتى كأنهم لا يقدرون على السمع ، ولا يقدرون على الإبصار لفرط تعاميهم عن الصواب. ويجوز أن يراد بقوله : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) : أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله ولا ينفعهم ذلك ، فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعا أو يدفعون عنهم ضررا؟ ويجوز أن تكون (ما) هي المدية (١). والمعنى : أنه يضاعف لهم العذاب مدّة استطاعتهم السمع والبصر. قال الفرّاء : ما كانوا يستطيعون السّمع لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ. وقال الزجّاج : لبغضهم النبي صلىاللهعليهوسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه. قال النحاس : هذا معروف في كلام العرب ، يقال فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان : إذا كان ثقيلا عليه (أُولئِكَ) المتصفون بتلك الصفات (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بعبادة غير الله. والمعنى : اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله فكان خسرانهم في تجارتهم أعظم خسران (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : ذهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدّعون أنها تشفع لهم ، ولم يبق بأيديهم إلا الخسران ، قوله : (لا جَرَمَ) قال الخليل وسيبويه : (لا جَرَمَ) بمعنى : حق ، فهي عندهما بمنزلة كلمة واحدة ، وبه قال الفرّاء. وروي عن الخليل والفرّاء : أنها بمنزلة قولك لا بدّ ولا محالة ، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا. وقال الزجّاج : إن جرم بمعنى : كسب ، أي : كسب ذلك الفعل لهم الخسران ، وفاعل كسب مضمر ، وأنّ منصوبة بجرم. قال الأزهري : وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة. وقال الكسائي : معنى لا جرم : لا صدّ ، ولا منع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال جماعة من النحويين : إن معنى لا جرم لا قطعه قاطع (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) قالوا : والجرم ، القطع ، وقد جرم النخل واجترمه : أي : قطعه ، وفي هذه الآية بيان أنهم
__________________
(١). أي : ما : المصدرية الظرفية.