قراءة أبيّ ، فعماها عليكم. والاستفهام في : (أَنُلْزِمُكُمُوها) للإنكار ، أي : لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها ، والحال أنكم لها كارهون ؛ والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوّتي إلا أنها خافية عليكم ، أيمكننا أن نضطركم إلى العلم بها؟ والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها ، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عزوجل. وحكى الكسائي والفراء إسكان الميم الأولى في أنلزمكموها تخفيفا كما في قول الشاعر :
فاليوم أشرب غير مستحقب |
|
إثما من الله ولا واغل (١) |
فإن إسكان الباء في أشرب للتخفيف. وقد قرأ عمرو كذلك. قوله : (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فيه التّصريح منه عليهالسلام بأنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالا حتى يكون بذلك محلا للتهمة ، ويكون لقول الكافرين مجال بأنه إنما ادّعى ما ادّعى طلبا للدنيا ، والضمير في عليه راجع إلى ما قاله لهم فيما قبل هذا. وقوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) كالجواب عما يفهم من قولهم : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) من التلميح منهم إلى إبعاد الأراذل عنه ؛ وقيل : إنهم سألوه طردهم تصريحا لا تلميحا ، ثم علل ذلك بقوله : (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي : لا أطردهم ، فإنهم ملاقون يوم القيامة ربهم ، فهو يجازيهم على إيمانهم لأنهم طلبوا بإيمانهم ما عنده سبحانه ، وكأنه قال هذا على وجه الإعظام لهم ، ويحتمل أنه قاله خوفا من مخاصمتهم له عند ربهم بسبب طرده لهم ؛ ثم بيّن لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طلبوها منه ، والعلل التي اعتلوا بها عن إجابته فقال : (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) كل ما ينبغي أن يعلم ، ومن ذلك استرذالهم للذين اتبعوه وسؤالهم له أن يطردهم. ثم أكد عدم جواز طردهم بقوله : (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أي : من يمنعني من عذاب الله وانتقامه إن طردتهم؟ فإن طردهم بسبب سبقهم إلى الإيمان ، والإجابة إلى الدعوة التي أرسل الله رسوله لأجلها ظلم عظيم ، لا يقع من أنبياء الله المؤيدين بالعصمة ، ولو وقع ذلك منهم فرضا وتقديرا لكان فيه من الظلم ما لا يكون لو فعله غيرهم من سائر الناس. وقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) معطوف على مقدّر ؛ كأنه قيل : أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل بما ذكر أفلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره وتتفكرون فيه حتى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ ، وما هم عليه من الصواب؟ قوله : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) بين لهم أنه كما لا يطلب منهم شيئا من أموالهم على تبليغ الرسالة ، كذلك لا يدّعي أن عنده خزائن الله حتى يستدلوا بعدمها على كذبه ، كما قالوا : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) والمراد بخزائن الله : خزائن رزقه (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي : ولا أدّعي أني أعلم بغيب الله ، بل لم أقل لكم : إلا أني نذير مبين ، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم (وَلا أَقُولُ) لكم (إِنِّي مَلَكٌ) حتى تقولوا ما نراك إلا بشرا مثلنا. وقد استدلّ بهذا من قال إن الملائكة أفضل من الأنبياء ، والأدلة في هذه المسألة مختلفة ، وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجة ، فليست مما كلفنا الله بعلمه (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي
__________________
(١). احتقب الإثم : ارتكبه. والبيت لامرئ القيس.