أَعْيُنُكُمْ) أي : تحتقر ، والازدراء مأخوذ من أزرى عليه : إذا عابه ، وزري عليه : إذا احتقره ، وأنشد الفرّاء :
يباعده الصّديق وتزدريه |
|
حليلته وينهره الصّغير |
والمعنى : إني لا أقول لهؤلاء المتّبعين لي ، المؤمنين بالله ، الذين تعيبونهم وتحتقرونهم (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) بل قد آتاهم الخير العظيم بالإيمان به واتباع نبيه ، فهو مجازيهم بالجزاء العظيم في الآخرة ، ورافعهم في الدنيا إلى أعلى محل ، ولا يضرّهم احتقاركم لهم شيئا (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) من الإيمان به ، والإخلاص له ، فمجازيهم على ذلك ، ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لهم ؛ إن فعلت ما تريدونه بهم ، أو من الظالمين لأنفسهم ، إن فعلت ذلك بهم ، ثم جاوبوه بغير ما تقدّم من كلامهم وكلامه عجزا عن القيام بالحجة ، وقصورا عن رتبة المناظرة ، وانقطاعا عن المباراة ، بقولهم : (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) أي : خاصمتنا بأنواع الخصام ، ودفعتنا بكل حجّة لها مدخل في المقام ، ولم يبق لنا في هذا الباب مجال ، فقد ضاقت علينا المسالك ، وانسدّت أبواب الحيل (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب الذي تخوّفنا منه وتخافه علينا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما تقوله لنا ، فأجاب بأن ذلك ليس إليه وإنما هو بمشيئة الله وإرادته ، و (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) فإن قضت مشيئته وحكمته بتعجيله عجله لكم ، وإن قضت مشيئته وحكمته بتأخيره أخره (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) بفائتين عما أراده الله بكم بهرب أو مدافعة (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) الذي أبذله لكم ، وأستكثر منه قياما مني بحق النصيحة لله بإبلاغ رسالته ، ولكم بإيضاح الحق وبيان بطلان ما أنتم عليه (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) وجواب هذا الشرط محذوف ، والتقدير : إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي ، كما يدل عليه ما قبله (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي : إن كان الله يريد إغواءكم فلا ينفعكم النّصح منّي ، فكان جواب هذا الشرط محذوفا كالأوّل ، وتقديره ما ذكرنا ، وهذا التقدير إنما هو على مذهب من يمنع من تقدّم الجزاء على الشرط ، وأما على مذهب من يجيزه ، فجزاء الشرط الأوّل : ولا ينفعكم نصحي ، وجزاء الشرط الثاني الجملة الظرفية الأولى وجزاؤها. قال ابن جرير : معنى يغويكم : يهلككم بعذابه ، وظاهر لغة العرب أن الإغواء : الإضلال ؛ فمعنى الآية : لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يضلكم عن سبيل الرشاد ويخذلكم عن طريق الحق. وحكي عن طيّ : أصبح فلان غاويا : أي مريضا ، وليس هذا المعنى هو المراد في الآية. وقد ورد الإغواء بمعنى : الإهلاك ، ومنه : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (١) وهو غير ما في هذه الآية (هُوَ رَبُّكُمْ) فإليه الإغواء وإليه الهداية (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) قال : فيما ظهر لنا. وأخرج أبو الشيخ عن عطاء مثله. وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) قال : قد عرفتها وعرفت بها أمره ، وأنه لا إله إلا هو ، (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) قال : الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوّة. وأخرج ابن جرير ،
__________________
(١). مريم : ٥٩.