والمعنى : إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة ، كما تسخرون منا كذلك ، أو متجدّدة متكرّرة كما تسخرون منا كذلك ، وقيل معناه : نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق ، وفيه نظر فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية إذ هم في شغل شاغل عنها ، ثم هدّدهم بقوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) وهو عذاب الغرق في الدنيا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) وهو عذاب النار الدائم ، ومعنى يحلّ : يجعل المؤجل حالا ، مأخوذ من حلول الدين المؤجل ، ومن موصولة في محل نصب ، ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع ، أي : أينا يأتيه عذاب يخزيه ؛ وقيل : في موضع رفع بالابتداء ، ويأتيه الخبر ، ويخزيه صفة لعذاب ، قال الكسائي : إنّ ناسا من أهل الحجاز يقولون سوف تعلمون ؛ قال : ومن قال ستعلمون أسقط الواو والفاء جميعا ، وجوّز الكوفيون «سوف تعلمون» ومنعه البصريون ، والمراد بعذاب الخزي : العذاب الذي يخزي صاحبه ويحل عليه العار. قوله (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) حتى هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية وجعلت غاية لقوله : واصنع الفلك بأعيننا.
والتنور اختلف في تفسيرها على أقوال : الأوّل : أنها وجه الأرض ، والعرب تسمي وجه الأرض تنورا ، روي ذلك عن ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة. الثاني : أنه تنور الخبز الذي يخبزون فيه ، وبه قال مجاهد وعطية والحسن ، وروي عن ابن عباس أيضا. الثالث : أنه موضع اجتماع الماء في السفينة ، روي عن الحسن. الرابع : أنه طلوع الفجر ، من قولهم تنوّر الفجر ، روي عن عليّ بن أبي طالب. الخامس : أنه مسجد الكوفة ، روي عن عليّ أيضا ومجاهد ؛ قال مجاهد : كان ناحية التنوّر بالكوفة. السادس : أنه أعالي الأرض والمواضع المرتفعة ، قاله قتادة. السابع : أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة ، روي ذلك عن عكرمة. الثامن أنه موضع بالهند ؛ قال ابن عباس : كان تنور آدم بالهند. قال النحاس : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ؛ لأنّ الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض ، قال : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ـ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) (١) فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة ، هكذا قال ، وفيه نظر ، فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع ، ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء. إلا إذا كان المراد مجرد العلامة كما ذكره آخرا. وقد ذكر أهل اللغة أن الفور : الغليان ، والتنور : اسم عجمي عرّبته العرب ؛ وقيل معنى فار التنور : التمثيل بحضور العذاب ، كقولهم : حمي الوطيس ؛ إذا اشتدّ الحرب ، ومنه قول الشاعر :
تركتم قدركم لا شيء فيها |
|
وقدر القوم حامية تفور |
يريد الحرب.
قوله : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : قلنا يا نوح احمل في السفينة من كل زوجين مما في الأرض من الحيوانات اثنين ذكرا وأنثى. وقرأ حفص : (مِنْ كُلٍ) بتنوين كل أي من كل شيء زوجين ؛ والزوجان : للاثنين الذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، ويطلق على كل واحد منهما زوج ، كما يقال للرجل : زوج وللمرأة زوج ، ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلا للفرد ، ويطلق الزوج على الضرب والصنف ،
__________________
(١). القمر : ١١ ـ ١٢.