مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي : من إجرامكم بسبب ما تنسبونه إليّ من الافتراء ، قيل : وفي الكلام حذف ، والتقدير : لكن ما افتريته ، فالإجرام وعقابه ليس إلا عليكم وأنا بريء منه.
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية فقيل : إنها حكاية عن نوح وما قاله لقومه ، وقيل : هي حكاية عن المحاورة الواقعة بين نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم وكفار مكة. والأوّل أولى ، لأن الكلام قبلها وبعدها مع نوح عليهالسلام. لاقوله : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) أنه لن يؤمن : في محل رفع على أنه نائب الفاعل الذي لم يسمّ. ويجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير الباء ، أي : بأنه ، وفي الكلام تأييس له من إيمانهم ، وأنهم مستمرّون على كفرهم ، مصممون عليه ، لا يؤمن أحد منهم إلا من قد سبق إيمانه (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) البؤس : الحزن ، أي : فلا تحزن ، والبائس : المستكين ، فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين لأن الابتئاس حزن في استكانة. ومنه قول الشاعر :
وكم من خليل أو حميم رزئته |
|
فلم أبتئس والرّزء فيه جليل |
ثم إنّ الله سبحانه لما أخبره أنهم لا يؤمنون ألبتة عرفه وجه إهلاكهم ، وألهمه الأمر الذي يكون به خلاصه وخلاص من آمن معه ، فقال : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي : اعمل السفينة متلبسا بأعيننا ؛ أي : بمرأى منا ، والمراد : بحراستنا لك ، وحفظنا لك ، وعبّر عن ذلك بالأعين لأنها آلة الرؤية ، والرؤية هي التي تكون بها الحراسة والحفظ في الغالب ، وجمع الأعين للتعظيم لا للتكثير ؛ وقيل المعنى : (بِأَعْيُنِنا) أي : بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على حفظك ؛ وقيل : (بِأَعْيُنِنا) بعلمنا ؛ وقيل : بأمرنا. ومعنى بوحينا : بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : لا تطلب إمهالهم ، فقد حان وقت الانتقام منهم ، وجملة (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) للتعليل ، أي : لا تطلب منا إمهالهم ، فإنه محكوم منا عليهم بالغرق وقد مضى به القضاء فلا سبيل إلى دفعه ولا تأخيره ؛ وقيل : المعنى ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم مغرقون في الوقت المضروب لذلك ، لا يتأخر إغراقهم عنه ؛ وقيل : المراد بالذين ظلموا : امرأته وابنه (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) أي : وطفق يصنع الفلك ، أو وأخذ يصنع الفلك ؛ وقيل : هو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة ، وجملة : (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) في محل نصب على الحال ؛ أي : استهزءوا به لعمله السفينة. قال الأخفش والكسائي : يقال سخرت به ومنه. وفي وجه سخريتهم منه قولان : أحدهما أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة ، فيقولون : يا نوح! صرت بعد النبوّة نجارا. والثاني : أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة ، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك ، قالوا : يا نوح ما تصنع بها؟ قال : أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله ، وسخروا به. ثم أجاب عليهم بقوله : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل : فماذا قال لهم؟ والمعنى : إن تسخروا منا بسبب عملنا للسفينة اليوم نسخر منكم غدا عند الغرق. ومعنى السخرية هنا : الاستجهال ، أي : إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون ، واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم ، وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده ، والتشبيه في قوله (كَما تَسْخَرُونَ) لمجرد التحقق والوقوع ، أو التجدّد والتكرّر ،