محل نصب بالفعل الذي قبله (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لما زيف سبحانه طريقة عبدة الأوثان صرح بما هو الحق في نفس الأمر ، وهو وحدانيته سبحانه ، ثم ذكر ما لأجله أصرّ الكفار على شركهم فقال : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) للوحدانية لا يؤثر فيها وعظ ولا ينجع فيها تذكير (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن قبول الحق ، متعظمون عن الإذعان للصواب ، مستمرون على الجحد (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) قال الخليل : لا جرم كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا ، أي : حقا أن الله يعلم ما يسرّون من أقوالهم وأفعالهم وما يعلنون من ذلك ، وقد مرّ تحقيق الكلام في لا جرم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) أي : لا يحبّ هؤلاء الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه ، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدّم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) أي : وإذا قال لهؤلاء الكفار المنكرين المستكبرين قائل ماذا أنزل ربكم؟ أي : أيّ شيء أنزل ربكم؟ أو ماذا الذي أنزل؟ قيل : القائل النضر بن الحارث والآية نزلت فيه ، فيكون هذا القول منه على طريق التهكم ؛ وقيل : القائل هو من يفد عليهم ؛ وقيل : القائل المسلمون ، فأجاب المشركون المنكرون المستكبرون ف (قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) بالرفع ؛ أي : ما تدّعون أيها المسلمون نزوله أساطير الأوّلين ، أو أن المشركين أرادوا السخرية بالمسلمين فقالوا المنزل عليكم أساطير الأوّلين ، وعلى هذا فلا يرد ما قيل من أن هذا لا يصلح أن يكون جوابا من المشركين ، وإلا لكان المعنى الذي أنزله ربّنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرّون بالإنزال ، ووجه عدم وروده هو ما ذكرناه ؛ وقيل : هو كلام مستأنف ، أي : ليس ما تدّعون إنزاله أيها المسلمون منزلا بل هو أساطير الأوّلين ؛ وقد جوّز على مقتضى علم النحو نصب أساطير وإن لم تقع القراءة به ، ولا بد في النصب من التأويل الذي ذكرنا ، أي : أنزل على دعواكم أساطير الأولين ، أو يقولون ذلك من أنفسهم على طريق السخرية. والأساطير : الأباطيل والترّهات التي يتحدّث الناس بها عن القرون الأولى ، وليس من كلام الله في شيء ولا مما أنزله الله أصلا في زعمهم (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً) أي : قالوا هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم كاملة ، لم يكفر منها شيء لعدم إسلامهم الذي هو سبب لتكفير الذنوب ؛ وقيل : إن اللام هي لام العاقبة ، لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لأجل يحملون الأوزار ، ولكن لما كان عاقبتهم ذلك حسن التعليل به كقوله : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١). وقيل : هي لام الأمر (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) أي : ويحملون بعض أوزار الذي أضلوهم لأن من سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ؛ وقيل : من للجنس لا للتبعيض ، أي : يحملون كل أوزار الذين يضلّونهم ، ومحلّ (بِغَيْرِ عِلْمٍ) النصب على الحال من فاعل (يُضِلُّونَهُمْ) أي : يضلون الناس جاهلين غير عالمين بما يدعونهم إليه ، ولا عارفين بما يلزمهم من الآثام ؛ وقيل : إنه حال من المفعول ، أي : يضلون من لا علم له ، ومثل هذه الآية : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) (٢). وقد تقدّم في الأنعام الكلام على قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣). (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي : بئس شيئا يزرونه ذلك. ثمّ حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدّمين فقال : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان حيث
__________________
(١). القصص : ٨.
(٢). العنكبوت : ١٣.
(٣). الأنعام : ١٦٤.